مات الوردي.. ومات محفوظ.. والطاهر.. والمخزومي.. والسامرائي.. ومات السامر.. وكل علمائنا.. لم يحتفى بهم بشكل يليق لا في حياتهم.. بل حاربتهم السلطة بكل الأساليب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والمعاشية.. وفي مماتهم أهملوا ولم يحتفى بهم.. أو بشكل محتشم.. حتى لم يُمنحوا عضويّة المجمع العلمي العراقي.. في حين منحتهم المجاميع العلمية العربية والعالمية ليس عضويتها فحسب بل أوسمة وغيرها.. ولنذكر نماذج في هذا الشأن : أولاً : علي الوردي : ـ عالم الاجتماع.. أستاذ ومؤرخ.. عرفً باعتداله وموضوعيته.. أبحاثه ومؤلفاته مازالت حتى الآن تفسير علمي وواقعي لطبيعة المجتمع العراقي .. لم باحثاً في علم الاجتماع.. وهو اختصاصه فحسب.. بل تعداه الى التاريخ والفلسفة والأدب والباراسايكولوجي.. إذ تناول الوردي في كتابه “خوارق اللاشعور” وكتبه الأخرى موضوع الباراسايكولوجي.. هذا العلم الجديد الذي يمثل جوهر الإنسان وجوانيته وقدراته فوق الحسية.. تناوله بجرأة وشجاعة غير معهودة في ذلك الزمان .. ـ كانت معظم أطروحاته.. التي ملأت كتبه يلقيها في محاضراته.. تزعج السلطة الحاكمة في بغداد .. ـ الأمر الذي دعا بها الى التضييق عليه تدريجياً.. ابتداءً من سحب لقب أستاذ متمرس منه .. ـ وصولاً الى سحب معظم كتبه من المكتبات.. وحضرها على القراء بداعي ما أسموه “السلامة الفكرية” .. ـ مروراً بمحاولات تهميشه.. وإفقاره مادياً.. وهو ما آل إليه حاله .. ـ إهمال الدولة له في محنة إصابته بسرطان البروستات.. وما رافقه من تبوّل دموي هدّ قواه وأنهكه.. المرض .. ـ رغم العلاج الذي تلقاه في المستشفيات الأردنية.. وعلى نفقة السلطات الأردنية.. كما أشيع وقتها .. ـ مات عالمنا الجليل يوم الثالث عشر من تمّوز من العام 1995.. ـ أقيم له في بغداد تشييع محتشم.. غابً عنه المسؤولون.. وجازفً من حضر من المشيعين .. ـ عاش علي الوردي غريباً في هذا المجتمع .. ورحل غريباً عنه .. فطوبى للغرباء .. ـ من المفارقات المؤلمة أن علي الوردي.. هذا العلامة الجهبذ.. ماتً ولم يُمنح عضوية المجمع العلمي العراقي .. ثانياً : حسين علي محفوظ : ـ أحد أولئك الأفذاذ قليلي العدد.. وهو أحد العباقرة الموهوبين الذين خدموا العراق .. كان رمزاً للفكر في العراق والعالم العربي والشرق.. وشيخ العبقرية المخلص.. شيخ العرب.. وشيخ الأدب.. هو إنشتاين العرب.. وهو يستحق هذا اللقب بجدارة متناهية .. ـ أبحاثه لا تعد ولا تحصى.. علماً وأدباً.. إنه (مكتبة متنقلة).. و(موسوعة متحركة).. و(انسكلوبيدية تمشي على رجلين).. و(دائرة معارف سيارة).. هكذا لقبه علماء أوروبا وأساتذة جامعاتها الكبرى .. ـ منحته جامعة ليننغراد (بطرسبورغ) لقب بروفيسور العام1961.. ولقبته (أستاذ المستشرقين) ..
ـ توفي تلميذ الوردي وشيخ بغداد العلّامة ” حسين علي محفوظ ” في 20 كانون الثاني العام 2009.. ولم ينل عضوية المجمع العراقي .. ثالثاً : جواد علي الطاهر : ـ شيخ النقاد.. أحد كبار المؤلفين المبدعين في العالم العربي.. لا يضاهيه أحد في الجودة والتنوع في التراث والمعاصرة.. في التحقيق والتأليف.. في الترجمة.. في النقد ألتنظيري والنقد التطبيقي .. ـ مربي في الحياة والأدب.. مؤسس وملهم وراع.. ذو يراع صنعته ثقافة موسوعية عالية.. ورأي خلقته دقة المعرفة والإطلاع .. ـ ساح في ربوع التراث.. وأنعطف في دروب المعرفة العالمية والعربية والمحلية.. عالم يعترف (الجميع بذلك) وفي أكثر من ميدان.. ونافت كتبه على الأربعين كتاباً .. ـ تواضع الأستاذ الطاهر لا يوصف.. فبعد وفاة تلميذه النجيب الناقد الكبير عبد الجبار عباس ألفً الطاهر عنه كتاباً قيماً.. وتلك سابقة لا مثيل لها .. ـ توفاه الله تعالى في 9/10/1996 في بغداد.. مات جواد علي الطاهر في شقته في شارع الرشيد.. من غير أن يشيع تشييع يليق بمكانته العلمية خوفاً من أزلام صدام.. لأنه رجل لم يبع علمه لدنيا غيره.. ولم ينل عضوية المجمع العلمي العراقي .. رابعاً : فيصل السامر : الإنسان الأنموذج.. والمثقف ذو المعرفة الواسعة.. والمربي الفاضل.. ورب الأسرة الناجح.. والسياسي النقي.. وطني مخلص غيور.. عالم في مجال اختصاصه.. ومتميز بصفات العلماء وتواضعهم.. مع جرأة في فهم التراث وقدرة عالية على الانفتاح.. والتعامل بوعي مع المرحلة التي عاشها.. رفض بشدة إعادة كتابة التاريخ وهو ما دعاه إليه صدام.. اسقط البعثيون جنسيته.. وظل معتزاً بعراقيته.. من الصعب إحصاء ما كتبه وترجمه وحققه السامر من كتب ودراسات وبحوث باللغتين العربية والإنكليزية .. ـ كان علمياً وموضوعياً لدرجة أن الدكتور حسين محفوظ قال: كان الدكتور فيصل السامر احد أعضاء لجنة مناقشة طالب دكتوراه في التاريخ.. وهذا الطالب من أعضاء حزب السلطة.. وقد أبلغت لجنة المناقشة رسمياً.. بمنح هذا الطالب درجة الامتياز.. إلا أن الدكتور السامر رفض منح الطالب تلك الدرجة لعدم استحقاق هذا الطالب لها .. ـ ربما تكون الثروة الوحيدة التي تركها السامر لأولاده هي المبادئ.. فعندما أصبح سفيراً مثلاً كان يسد النقص في المصاريف والأثاث من حسابه الخاص.. تاركاً كل شيء للسفارة بعد أن تنتهي مدة سفارته.. وحسابه بالبنك بعد وفاته لم يتعد العشرة دنانير .. ـ بعد مسيرة تربوية وسياسية وعلمية ودبلوماسية.. ونضال دءوب من أجل عراق مستقل ومتقدم.. وبعد صراع مع المرض توفي فيصل السامر في الثاني عشر من كانون الأول العام 1982 في لندن .. ـ وما يثير الدهشة والألم إن كل المحافل الثقافية العراقية صمتت.. ولم تقل كلمة واحدة في حق السامر في وفاته.. أو في نتاجه الفكري السخي.. حتى أن جامعة بغداد التي قضى حياته في خدمتها لم تبادر الى أقامة حفل تأبيني له… إنها سخرية القدر في الزمن الأغبر !! ـ مات السامر ولم يمنح عضوية المجمع العلمي العراقي.. ـ المفارقة أن هؤلاء العلماء لم يمنحوا عضوية المجمع العلمي العراقي .. وقل مثل ذلك عن : الدكتور مهدي المخزومي.. والدكتور إبراهيم السامرائي.. والدكتور شاكر خصباك.. وغيرهم من رموز العراق الفكرية اللامعة ..
ـ وقد منحوا عضوية مجامع علمية عربية وأجنبية تقديراً لعلمهم ونبوغهم ومنجزاتهم .. ـ يكفينا ألَماً أن نذكر مقولة الأستاذ المؤرخ (حسين أمين) التي قالها في الحفل التأبيني الذي أُقيم بعد رحيل العلامة الشيخ (حسين علي محفوظ) – رحمه الله – حيث خاطب حسين أمين الحاضرين بقوله : (إن الراحل “حسين علي محفوظ ” كان يشكو من إهمال المجمع العلمي العراقي له.. وأنا أجيبه بأن معظم أعضاء المجمع الحاليين لا يعرفون من العلم شيئاً.. فهل تريد أن تضيع بين هؤلاء ؟.. ( ـ بقيً أن نقول: إذا كانت حياة علماؤنا هكذا في الزمن الأغبر !! فكيف يعيش علماؤنا في عراق اليوم.. عراق التجهيل.. عراقٌ اليوم لا مكان فيه للعلماء والمفكرين والنخب فيه سوى: التهديد.. أو التهجير.. أو الاغتيال.. أو التهميش.. في أحسن الأحوال ..