السيرة والتكوين:
عبد الكريم قاسم من مواليد منطقة المهدية في بغداد العام 1914.. قليلون يعرفون أن عبد الكريم قاسم من اليمن.. إذ نزح جده السادس عبد الله من اليمن.
كان والد عبد الكريم كاسباً.. وعمل فلاحاً لتحسين حالته المعيشية في مدينة الصويرة… وعاد الى بغداد واشتغل نجاراً.. لم يستطع عبد الكريم أن يدخل الكلية العسكرية.. وعمل معلماً في الشامية الابتدائية.. ثم التحق العام 1932 بالجيش.. في هذه الفترة كان له ابن خالة هو الطيار محمد على جواد قائد القوة الجوية.. وقد لمع اسم ابن خالته في انقلاب بكر صدقي (رئيس أركان الجيش) العام.. 1936.. إلا انه قتل مع بكر صدقي في آب 1937.. أي بعد عام على الانقلاب.. على يد العروبيين.. وقد أثر مقتله على شخصية عبد الكريم.. وانعكس سلباً على موقف عبد الكريم من العروبيين المسؤولين عن مقتل ابن عمه.
ـ تلاميذ عبد الكريم.. ضباط انقلابيون:
كان عبد الكريم عبد الكريم مدرساً في الكلية العسكرية.. وفي الدورة (17) خرج من تحت يديه ضباطاً كان لهم شأن في مستقبل العراق.. منهم: عبد السلام عارف.. التلميذ المفضل عند عبد الكريم.. أحمد حسن البكر.. رفعت الحاج سري.. إسماعيل العارف.. فاضل عباس المهداوي (قريب عبد الكريم).. وصفي طاهر.. وهؤلاء كانوا من أبرز الرواد والضباط الانقلابيين.
ـ بروز اسمه:
لمع أسم عبد الكريم قاسم خلال الحريب ضد ملا مصطفى البرزاني 1943 ـ 1945.. كذلك خلال حرب فلسطين 1948 فقد سجل بطولة وشجاعة.. حيث قام فعلاً ببعض الهجمات على مستعمرات العدو الإسرائيلي.
وخلال انتفاضة تشرين الثاني 1952 ضد الحكومة.. فإن عبد الكريم تدخل بلوائه المشاة الأولى لتفريق المتظاهرين.. واكتسب شعبية جديدة.
علاقته بنوري السعيد:
ترجع علاقة نوري السعيد وزير الدفاع بعبد الكريم قاسم الى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.. من خلال صديقه عبد الرزاق الجدة “مرافق نوري السعيد”.. وعائلة الجدة بغدادية عريقة.. والسعيد صديق لهذه العائلة.. ومن حظ عبد الكريم أن أخباره تصل لنوري وزير الدفاع عن طريق آل الجدة.
كانت المعلومات أن عبد الكريم كفؤ ونزيه.. وفي التقارير التي وردت عنه خلال الحركات والحروب التي ساهم فيها.. أجمعت على أنه ضابط ركن خلوق جداً.. وكريم النفس، شهم مخلص لآمره ودقيق في أعماله.. وثقافته العامة جيدة جداً.. وسيكون في المستقبل من ضباط الجيش القديرين.
لكن تلك العلاقة “بين عبد الكريم قاسم ونوري السعيد” كانت علاقة غامضة.. يشوبها الكثير من الأسرار والتساؤلات والإبهام.. ولم تستطع الأيام كشف هذه العلاقة وخباياها.. خاصة إن لنوري السعيد إسلوبه الغامض في تصريف السياسة العراقية والعلاقة مع الآخرين.
فهناك محطات يستوجب الوقوف أمامها:
1ـ كان قاسم معروفاً بين الضباط انه من جماعة نوري السعيد ومحسوباً عليه.. وكان الباشا السعيد يحبه ويثق به الى أبعد الحدود.. وكان يسميه باسم الدلال (كرومي).
2ـ عندما رفضً رفيق عارف رئيس أركان الجيش الموافقة على تعين عبد الكريم قاسم آمراً للواء المشاة / 19.. ذهب قاسم الى نوري السعيد يخبره بذلك الأمر.. فاصدر السعيد أمراً بتعينه في منصب آمراً للواء ذاته في 13/12/1953 متجاوزاً رئيس أركان الجيش.
3ـ كان رفيق عارف يتابع قاسم ونشاطه لشكه في ميوله الشيوعية.. ولأنه محسوباً على نوري باشا.. فقد ابلغ رفيق عارف شكوكه هذه الى الباشا السعيد.. وأرسل الباشا في طلب قاسم واخبره بها.. قال قاسم إن رفيق عارف يتقصده ويكرهه.. لأنه محسوباً على الباشا السعيد.
لكن السؤال الملح: هل كلام قاسم مثل هذا ينطلي على نوري السعيد المخضرم بالسياسة العراقية لأكثر من ثمانية وعشرين عاماً..ويأخذ الكلام دون تدقيق من مصادره الخاصة؟!.. لكن ما هو السر في ذلك ؟
4ـ في زيارة قام بها الباشا نوري السعيد الى قاعدة ( H3 ).. عندما كان قاسم آمراً للقوة الموجودة فيها.. طرح بعض الضباط الوطنيين اغتيال نوري السعيد إثناء زيارته.. لكن قاسم وقف موقفا معارضا.. بل ومشدداً على استقبال الباشا بأحسن استقبال.. وزين المعسكر والهتافات والأهازيج والاحترام المبالغ به.. وقال لهم بالنص: “استقبلوا الباشا بالسرور والترحاب والهتاف والهوسات”.
5ـ بالرغم من معرفة جميع ضباط الحركة الوطنية بهذه العلاقة.. إلا إنها لم تطرح في اجتماعات الحركة.. ولم تناقش أسبابها والفائدة أو الضرر منها ؟.. وكان بالإمكان الاستفادة منها في التخطيط والتنفيذ للثورة ؟
لقد كان نوري سعيد يحبه كثيراً.. ويعتبره من الضباط المخلصين.. وكان قاسم يتعامل مع السعيد بطريقة تنمي عن حب كبير وإخلاص غير محدود.. هل هي طريقه لاستغلال السعيد للوصول الى مناصب عليا في السلطة؟.. أم إنها خطه لخط رجعه إذا ما حصل شيء؟.. أم ماذا ؟؟؟
6ـ يقول أخوه حامد قاسم “تفاجئنا بما حصل يوم 14 تموز 1958.. وورود اسم عبد الكريم.. ولم نكن مصدقين.. لأنه كان يحب نوري باشا كثيراً.. وعندما كنا نذكر الباشا بشيء من النقد كان يقول: “الباشا خوش رئيس وزراء.. وأياً كان يأتي في مكانه لا يمكن أن يكون بكفاءته”..!!
7ـ إثناء محاكمة عبد السلام محمد عارف في محكمة الشعب العام 1959 قال عارف: “لقد كانت خطة مدبره بيني وبين الزعيم لستر فعاليات الحركة.. فيقال على الزعيم انه محسوباً على نوري السعيد.. ويقولون عني إني محسوبا على رفيق عارف.. وبذلك نتخلص من الجواسيس.. وقد نجحنا في ذلك”.
8ـ موقف نوري السعيد عند غياب قاسم عن الدوام لفترة أكثر من تسعين يوماً.. حيث وجد في لندن من قبل السفارة ألعراقية بأنه كان يتعالج.. وموقف نوري في إلغاء الغياب.
9ـ عندما نقلت جثة نوري السعيد عصر يوم 15 تموز 1958 من مكان مصرعه في منطقة البتاويين الى وزارة الدفاع.. تجمع كبار الضباط حول الجثة..وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.. وعندما شاهد عبد الكريم قاسم نوري السعيد ميتاً دمعت عينه حزناً.
10ـ في مقابله بين عبد الكريم قاسم والشيخ عبد الستار الكبيسي الذي رفع عريضة يشكو فيها قطع نصف راتبه التقاعدي.. وكانت العريضة شديدة اللهجة.. حتى استدعاه قاسم الى مكتبه وقال له لم يكن باقي أمامك إلا أن تسبني؟.. فردً عليه الشيخ الكبيسي “وهل تعتقد انه لا يوجد من يسبك؟ إن هذه الأفعال لم تكن تحدث حتى في عهد نوري السعيد”.. وهنا تنهدً قاسم بحسره وهو يضرب بكفه على المنضدة قائلاً “نوري سعيد رجل ما جابته جيابه”.. إذاً لماذا قتلتموه ؟؟
اللقاء الأول بين قاسم والسعيد:
جاء اللقاء قاسم الأول لنوري السعيد على خلفية انعقاد اجتماع لمجموعة من الضباط الأحرار في مشتمل صفاء العارف في الكاظمية.. قبل العدوان الثلاثي على مصر العام 1956.. وقد اتصل بعبد الكريم قاسم احد أصدقائه العقيد الركن إسماعيل العارف ودعاه الى هذا الاجتماع للتداول في شؤون الثورة على الحكم الملكي وإنقاذ البلاد من محنتها فرفض عبد الكريم قاسم الاجتماع معهم.. عندما عرف أسماء المجتمعين.. إلا انه طلب من العقيد الركن إسماعيل علي العارف أن يجتمع بهم ويخبره بما دار بينهم.
وقد تم الاجتماع.. وجرت فيه مناقشات ومباحثات.. وبعد إن انفض وصل خبر هذا الاجتماع الى مسامع نوري السعيد فأرعبه هذا الخبر الخطر.. فأمر بمراقبة إسماعيل العارف سكرتير رئيس أركان الجيش.. ومراقبة المشتمل الذي عقد فيه الاجتماع.. وقد اخذ بهجت العطية مدير الأمن آنذاك الأمر على عاتقه.. وتوصل الى معلومات مهمة.. وهي أسماء الأشخاص الذين اجتمعوا في المشتمل.. وعددهم اثني عشر ضابطاً.. ورفع أسمائهم بتقريرٍ الى نوري السعيد يتهم هؤلاء بالأفكار اليسارية.. فاستفسر نوري السعيد من مرافقه يومها عبد الرزاق الجدة.. الذي نفى التهمة المذكورة عن هؤلاء الضباط.. لكن نوري لم يقتنع بذلك واتصل برفيق عارف رئيس أركان الجيش وأمره أن يستوضح من سكرتيره عن اجتماع الكاظمية وعن الضباط الذين حضروا الاجتماع.. كما أمره أن يستدعي الزعيم الركن عبد الكريم قاسم من معسكر المنصور لمواجهته.. فقام رئيس أركان الجيش بما أمر به وهو استدعاء عبد الكريم قاسم.. ولما قدم عبد الكريم قاسم الى بغداد أسرع عبد الكريم الجدة للقائه واخبره بما نوره به أخوه عبد الرزاق ألجده مرافق نوري السعيد.. الذي كان مطلعا على تفاصيل الموضوع.. وكان هذا الموقف بالنسبة للزعيم عبد الكريم قاسم علي غاية من الخطورة نظرا لكثرة الشبهات والوشايات التي قيلت في حقه.
لكنه لم يكترث بذلك ولم يبد عليه أي اهتمام.. وذهب الى رفيق عارف رئيس أركان الجيش.. فاستفسر منه رفيق عن أسباب صداقته الوثيقة بإسماعيل العارف.. وأشار عليه بلزوم ترك هذه الصداقة.. وطلب أليه البقاء في بغداد ريثما يطلبه نوري السعيد.
بعد ثلاثة أيام طلبه نوري السعيد وذهب الى مقابلته.. وصادف أن كان الشيخ علي الشرقي (الشاعر وزير الدولة منذ العام 1954 ولغاية 1958).. موجوداً عند نوري السعيد.
تكلم الشيخ على الشرقي الذي كان حاضراً هذا اللقاء فقال: كنت في زيارة لرئيس الوزراء نوري السعيد في مكتبه في رئاسة الوزراء.. وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث دخل السكرتير على نوري السعيد واخبره بان الزعيم عبد الكريم قاسم موجود في غرفته.. فقال له ادخله أدى التحية ووقف.. فأشار عليه نوري السعيد بالجلوس فجلس.. فبادره نوري باشا إن الشيخ علي الشرقي من (عيال البيت).. فابتسم عبد الكريم قاسم لهذا القول.. فقال له نوري بعدك تريد اسمنت ما خلصت شغلك بالسمنت فقال له باشا أريد أن أبلط جميع شوارع المعسكر حتى إذا ما تفضلت علينا بزيارة الى معسكر المنصور لا يهب عليك الغبار والتراب.. فابتسمً نوري السعيد لذلك القول.. وقال له: عبد الكريم إنني اسمع ها الأيام انك مرتبط بجماعة يشتغلون بالسياسة وتجتمع معهم وتريدون تسوون ثورة وتسقطون النظام.. فأجابه عبد الكريم قاسم بجد.. باشا هذه وشايات كاذبة ومحاولة لإبعاد المخلصين عنكً وللتفريق بيننا.. وزرع بذور الشك.. لأنهم يعلمون إنني أتمتع بحمايتكم.. وحتى يستفيد الأعداء من تلك اللعبة بضرب النظام.. وإنني مخلص لكم وللملك والوطن.
بعد هذا الكلام بدأت علامات الارتياح والسرور على محيا نوري السعيد.. ثم رفع سماعة الهاتف وكلم رئيس أركان الجيش رفيق عارف وقال له: الزعيم عبد الكريم موجود عندي الآن وهو من الضباط المخلصين لنا.. بعد لا تسمع كلام فلان وعلان وخلي يروح للمنصورية.. ماكو داعي يبقى في بغداد.. وأغلق سماعة الهاتف.. وفرح عبد الكريم قاسم بعد أن إنحى على يد الباشا.
اللقاء الأخير بين نوري السعيد وعبد الكريم قاسم:
في أوائل العام 1958 عين نوري السعيد رئيس الوزراء اللواء الركن عباس علي غالب مديراً لمديرية الشرطة العامة إعارة من الجيش لمدة سنتين.. ينقل الدكتور كمال السامرائي عن صديقه اللواء الركن عباس علي غالب: “في حوالي منتصف شهر أيار / مايس 1958 كلمني رئيس الوزراء للاتحاد الهاشمي نوري السعيد.. وطلب مني أن أتحرى حركات بعض ضباط الجيش ومنهم عبد الكريم قاسم فقد بلغه (على حد قوله).. إن مجموعة من الضباط يخططون لانقلاب عسكري.. وأضاف نوري السعيد.. أنا استغرب أن يكون منهم عبد الكريم قاسم الذي حظي باهتمامي أكثر مما حظي مني أي ضابط آخر.. وختم السعيد كلامه وهو يقول بغضب.. أريد أن أرى عبد الكريم قاسم بأسرع وقت”.
قال عباس علي غالب: اتصلتُ بالحال بعبد الكريم قاسم في ألمقدادية ليحضر الى دائرتي في بغداد.. وجاءني في اليوم التالي الى مديرية الشرطة العامة.. وبعد أن أدى التحية العسكرية ليً.. طلبتُ منه أن يجلس قريباً مني.. فقلتُ له الباشا نوري السعيد ساخط عليكً بتورطكً في تحركات سرية ضد الدولة.. فاحذر يا كريم أن تتورط في مثل هذه الأمور.
أجابني عبد الكريم: أنا يا سيدي لا يمكن أن أتآمر ضد الباشا.. وما سمعه عني محض افتراء ولا صحة له بأي.. قدر.. قلتُ له على كل حال الباشا يريد مقابلتكً.. وتناول عباس علي غالب الهاتف وكلمً نوري السعيد قائلاً: باشا عبد الكريم قاسم في دائرتي.. وقاطعني نوري السعيد قائلاً.. يجيني الآن.. وأغلقتُ الهاتف.. وتحولتُ نحو عبد الكريم قاسم.. وقلتُ له الباشا ينتظركً.. ثم قلتُ له… وَعدْ ألي بعد مقابلتكً له.. لأعرف جلية الأمر.
بعد ساعة دخل عبد الكريم قاسم غرفتي بمديرية الشرطة العامة.. وهو يبتسم.. ويقول الباشا واهم وغاضب عليً دون سبب.. فلا أنا ولا احد في لوائي له الأفكار التي يتكلم عنها الباشا. قلت له: “يا كريم خبرني بتفاصيل المقابلة.. قال ما كدت ادخل غرفة الباشا حتى سألني.. وهو ينهض من كرسيه.. كريم أنا مقصر معاك!! ألم أبعثك الى لندن مرتين دون مبرر؟ وهل رفضتُ لك طلب؟.
وأردتُ أن أتكلم فأسكتني بحدة قائلاً: “اسمعني والله إذا قبضتُ عليكم فسأعلقكم واحدا واحداً على طول شارع الرشيد.. واجعل أهلكم يلبسون الأسود طول أعمارهم”.. فقلتُ له باشا” “اسمح لي: فقاطعني بقوله: ولا كلمة.. تنكر!.. فقلتُ له: “نعم يا باشا إن في كل ما سمعته عني.. قال: “تقسم بالشرف العسكري” قلتُ له: “اقسم بالشرف العسكري أن لا صحة لما وصلكً عني.. فانا لا يمكن أن أخونكً يا باشا”.
ويكمل قاسم حديثه.. عندها تبدلت أسارير وجهه وهو يقول ليً: “اقتنعتُ.. في الأمان يالله.. وغادرتُ غرفته.. بعد أن لمست رضاه عني.
بقيً أن نقول: ستظل هذه العلاقة لغزاً محيراً بين قاسم وبين نوري السعيد.. التي استمرت لأكثر من عشرة سنوات.
رحم الله نوري السعيد ورحم الله عبد الكريم قاسم فكلاهما من رجال العراق الذين خدموه بإخلاص وشرف.