23 ديسمبر، 2024 12:36 ص

عقيدة التوحش .. شريعة من الأثر

عقيدة التوحش .. شريعة من الأثر

عن الاعتقاد الفكري المتخالف وفقه الاضداد؛ فالاحتراب لن ينتج نصرا خالدا إلا بازالة اثار عقيدة التوحش عنه فعندما تتلاشى اي ملامح انسانية لمفاهيم حضارية فكرية احيائية سيكون المحارب ضحية تخضع لما يصاحب الاحتراب من سلوكيات متوحشة بغض النظر عن الفئة التي تجانب الحق والفئة الباغية وسيؤمن المحارب ان العقيدة هي التي نصرته وانها الحقيقة المطلقة وكل ما سواها فهي آثمة فيصبح مجرد اداة تنفذ ارادات غيره التي اشتغلت على ارجاعه الى الاثر الذي تأصل به بسب خوائها الفكري المعاصر وكونها لاتملك تفسيرا لما يحصل على الارض وخوفا من فقدان السلطة العقائدية التي حافظت عليها عبر قرون مديدة لتعيد انتاج فكر التصحر الاجدب والسيوف البتارة وقطع الرقاب التي يصاحبها التهليل والتكبير والتسليم وسيترتب على ذلك اشكالية التناقض والفصام بين حقوق الفرد وحقوق المحارب وبين سلوكه الذاتي والموضوعي وما يخلفه من شعور سايكولوجي مخيف بان المجد الذي اختلجه والزهو الذي امتلكه قد يتلاشيان ما لم تستدام ساحات الوغى التي تآلف معها ورايات الحراب التي اعتاد عليها ليرى مرة اخرى الصورة المثلى وقد انطبعت في فكره بانه من التابعين المخلصين المنتجبين وان ذلك الاحتراب مقدس فتمتلك عقيدة التوحش بواطن ارادته ووجدانه فيتوهم في لحظة من الزمن انه على صلة بالسماء وان من حقه ان يشرع الاحكام بما يراه مطلقا لانه في مرتبة خاصة افترضها لنفسه واضعا بذلك كل المفاهيم الانسانية والحقوق المدنية تحت العرش الذي قاتل من اجل التربع عليه .
والغلبة اللوجستية في التحارب العقائدي لاتمثل معيارا ولا مقياسا عقلانيا للانتصار فالحرب بعمومياتها المجردة هي اصطلاح لمقياس مستوى التدني العقلاني للجنس البشري وعدم قدرته على ان يجد فكرا كونيا مجرد من المعتقدات الذاتية وصعودا لعقيدة التوحش التي ادامها الادميون عبر التاريخ والشواهد التي لا تعد ولا تحصى؛ فمثلا معركة النهروان لم تستطيع ان تخرج الخوارج من خارجيتهم وابقت الطرف الاخر على ولايتهم وبالتالي فليس هناك من توافق فكري لمنع تدوير الاحتراب عبر الايام التي تتداول بين الناس وهنا تظهر عقائد سلاطين التوحش فكريا بارتباطها بالاستبداد والسلطة وتصبح عناوين تلتبس بالعقيدة الايمانية وتتحكم بقطعان الغافلين والمنقادين والسائرين على الطريقة من جيل الى جيل تتوارث الجاهلية والهمجية لانها تحيط نفسها بهالة الانغلاق القدسي عبر تركة هائلة من النصوص ومدونات الحديث والرواية التي اصبحت اليوم مثار جدل فكري واسع ومديد؛ ولذا فهي تعتبر كل خارج عن ملّتها هو على عقيدة ايديولوجية مخالفة على مستوى الايمان والكفر ومنافسة على مستوى السيادة والسلطة ومن ثم توجية ادوات الفكر العقائدي المتوحش باتجاه محقها كونها ترتبط فكريا بالوجود الذي يتعلق بكيان الطائفة وهذا يفسر اشكالية التاريخ المتراتبة والتي تؤكد استحالة ربط الفكر العقائدي على اختلاف مذاهبه بمنظومة وطنية ذات حدود واضحة وحقوق مدنية وحريات عادلة تعتمد على النظم الدستورية الحديثة في طبيعة قواعدها القانونية ومن ثم تكوين دولة رشيدة؛ والسبب هو في التمرد والخراب الذي ستلحقه تلك العقائد عبر مجاميع الذئاب المفترسة التي دربتها على شريعة التوحش والتي ستقوم باضعاف الدولة بالاستيلاء على مقدراتها واحكام قبضتها على ثرواتها لتجهيز الادوات بالعدة والعدد وهذا سيجر المجتمع الى عملية تكوين الحشود بمسميات المقاومة ونصرة المذهب والولاية والخلافة وتصعيد الخطاب على المنابر بتسويق الغاء الاخر وسحق كل ما يمكن ان يشكل تهديدا حتى وان كان مجرد راي وحسب؛ وستكون النصوص حاضرة في اي مكان وزمان لتبرير الافعال عبر الاجتهاد الفقهي الذي يتيح الفتاوى الجهادية؛ ولكن لن يكون هناك من يتحكم بالبوصلة لكي يتم السيطرة على تلك المجاميع من ان يتم تحويلها الى اجندات سياسية تسير بانقياد تام الى من يجعل نفسه وليا وفقيها ونائبا حاضرا لامام غائب او خليفة على الارض بالحاكمية الالهية وبالتالي سيرتبط الحكم السياسي بحبل ممدود من الارض الى السماء دون اعتبار للقوانين الوضعية التي تحتوي الجميع؛ والخطر الجسيم ان يكون القانون هو الحامي من اي عقوبات فيما لو تم الانحراف عن السلوك المدني للمجتمع؛ وهذا سيرفع بالتاكيد من مستوى الغلو الديني والافراط الاعتقادي في الاندماج مع الاغلبية المجتمعية وستقوم قطعان الذئاب بالهجوم على قطعان الحملان بشراسة لمجرد الحاجة لقتل من تراه مخالفا او عابثا لاثبات الوجود والهيمنة وبالتاكيد سيمر المجتمع بالتحول من الفكر المدني المدعوم قانونيا الى فكر التوحش المدعوم شرعيا وتبعا لذلك .. سيكون هناك دم .. وستكون هناك ضحايا وقرابين لمن يحكم في الارض بدون ان يستأذن من الذي يحكم في السماء لتطبيق الشريعة والتي جعلها خاتما بيده وعمامة على راسه وعباءة على جسده تتوارث عبر سفر التقليد والتسليم والتبجيل والتعظيم .
والفقه الحركي الجهادي كان القاعدة التي انطلقت منها عقيدة التوحش واستمدت شرعيتها من الاجتهاد في النصوص التي اقرت وبشكل لا يقبل التاويل ولا التحريف وما ترتب عليها من تفسير لصالح التشريع السياسي منذ القرون الاولى وما قبلها من الغزوات التي أبقت على تأصيل المجتمع القبلي بالعادات الجاهلية التي تبيح لمن يغزي الاخر المغانم المادية والبشرية كالعبيد والاماة ولقد طبقها كل من تولى الخلافة او الامامة ولم يكن هناك اي اعتراض قانوني ولا شرعي فقد كان الامر طبيعيا جدا لمن يشتري او يبيع السبايا “الصفراوات والسمراوات” في سوق النخاسة الذي كان يدام من الغزوات الاسلامية (الفتوحات) وما نتج عنها من مآسي وحروب كان هدفها المعلن هو نشر العقيدة ولم يكن من اجل الدفاع عن النفس في صد الغزوات وانما كان بهدف توسيع الرقعة الجغرافية للامة وليس تثبيت الحدود لانها غير معرفة ولا معترف فيها في النصوص ولا في مشروعية الحكم الاسلامي وهذة حجة لا يمكن ردها على من يشكل عليها لانها قد أسست الى وحشية العقل الجمعي الذي يزدري الحقوق المدنية لبقية الشعوب وحق اعتناق العقيدة التي يؤمن بها؛ والفكر الجهادي اخذ بعدا اخر من التوحش حين قام الخلاف في داخل المنظومة الاسلامية نفسها ليصبح الاحتراب بين فريقين مشرعا كما حصل في حروب الردة التي اثبتت ان العقيدة الايمانية ليست الا ظاهرة سطحية وان الهدف هو سياسي وهذا امتداد لما شرع من قبل بعد ان تم قتل من كان يسكن في المدينة من الاديان الاخرى واستباحة النساء والاموال وبعدها استعرت الحروب خارج حدود الجزيرة ثم عادت لتثير اكبر فتنة من داخل البيوتات الاولى والتي تبعتها حروب تتخالف فيها الاحكام الشرعية الجهادية فكل طرف يرى ان الحق معه فتعددت المرجعيات الفقهية والتي اقرنت الابعاد السياسية بفتاوى الجهاد لتشرعن استباحة الدم والعرض والمال بالفكر التكفيري والخارجي والرافضي والناصبي؛ وقد ترك ذلك اثرغاية في التعقيد بين العقيدة والسلوكيات البدائية القبلية والتي لا تمت باي صلة بمفهوم التسامح والسلام .. فالقيمة الحضارية للانسان هي في سلوكه الموضوعي وليس في عقيدته الذاتية .. وانعكس ما ترتب من ذلك الاثر على موروث قد اغرق المدونات والروايات بالتفاخر والزهو بما عملته عقيدة التوحش واعمال السيف وعديد السبايا والاماة وتوارثهن حالهن في ذلك كحال الاموال التي كانت تجبى من الامصار من الجزية والخراج وقد شكل ذلك التاريخ المزري نكوصا فكريا في الدعوة للسلام العالمي والاقرار بحقوق الانسان وغفلة عن الواقع الذي يؤكد بان المسلم العربي في المرتبة الادنى في الحصول على الحقوق المشروعة واصبح العالم العقائدي مسرحا للجهل المقدس والقتال المشرع .. تختلط فيه المشاهد والمواقع ليبقى المتفرجون في اسوء ارباك حضاري لتعريف الهوية الازدواجية ؛مسلمون ام مسالمون؛ .
البحث عن الحقيقة هو الغاية اللانهائية للوجود؛ والوعي الادراكي هو الوسيلة التي يسلكها الفكر الانساني عبر اسفار التأمل والتعمق حتى يقف على الاثر الاول الذي انبعثت منه البنيوية المتوحشة عند البشر وسياخذنا ذلك السفر الايماني الى الادمي الاول الذي جُعل في الارض خليفة بعد ان أُخرج من عالم اخر بسبب تفاحة (مجرد تفاحة) ؛ فأبتدأ التوحش الاول بين اول اخوين كانت لهما الارض وما يشتهون فيها؛ ليس بسبب مادي على الاطلاق ولكن بسبب عقائدي حينما قدم كل منهما قرباناً فقُبل من احدهما ورُفض من الاخر لسبب غير معروف وكان لهذا الرفض وقعا غيّر المفهوم التعايشي الذي مر على الاخوين طيلة حياتهما فحصلت اول جريمة في التاريخ الادمي فقتل الاخ اخيه بوحشية مفرطة وتُرك لينجو من اي عقوبة وضعية فانتشرت ذرية القاتل في الارض وكان هذا علينا قدرا مكتوبا؛ ولولا الالية التعبدية في تقديم القرابين والحكم بالرفض والقبول لما حصل هذا التوحش؛ حيث غاب عن الاخوين بان المفهوم الانساني الذي يربطهما اسمى واعلى من اي اعتقاد يفضل القربان على الانسان فبني الصراع الازلي في مكنون الجنس البشري بين متلازمة العقيدة والحقيقة .