ان بناء الحجر قد يستغرق بعض الوقت لكنه يبقى ممكناً على الرغم من تكلفته المرتفعة. الا ان اعادة اعمار النفوس وتسييجها بالصفح والغفران والمحبة وبناء السلم الاهلي وتوطيد جسور المحبة والتواصل قد تحتاح الى عهود طويلة ولا تتحقق الا بالحوار بيننا نحن العراقيين، وتحقيق الديمقراطية الحقيقية قولاً وعملاً لا الديمقراطية الفريدة التوافقية القائمة على التسويات وتقاسم الحصص على اساس طائفي وتغليب الحس الوطني على الانفعال الطائفي وعلى المصلحة الخاصة.
ان مسألة عقد كامل من الكوارث والبلايا وتأمله من منظور نسبي بوصفه مرحلة انتهت لا تشكل منافسة للحاضر. ومقارنة هذا الماضي بالحاضر ومحاولة التوفيق بينهما لاستخلاص العبر والدروس وتلمس محطات التغيير فينا…. لا شك ان هذا يستلزم مراجعة موضوعية لمرحلة 9/نيسان/ 2003 حتى 9/ نيسان/ 2013 وهي موضوع مقالنا.
ان تاريخ عراقنا خلال هذه المرحلة الكارثية التي عصفت به تميز بحدوث تحولات جذرية ونوعية شملت مجتمعه وبنيته وتعايش طوائفه الدينية وسلوكيات مواطنيه وثقافتهم السياسية ومعارفهم وانماط عيشهم خلال هذه المرحلة من تاريخه.
وقد تسببت هذه المرحلة بضمنها سنوات الاحتلال في تفكيك الدولة العراقية من ناحية تقليص سيادتها على ارضها وسلطتها على شعبها، وانهيار مؤسساتها وماليتها، والحاق الاضرار بالاقتصاد الوطني، والقضاء على مركز السوق الداخلية، وصعود قوى من قاع المجتمع، وقوى الامر الواقع التي استطاعت ان تهمش دور الدولة وتعطل قرارها، وتستحوذ على بعض من ايراداتها، وتضع ايديها على مؤسساتها واداراتها.
وشهدت هذه المرحلة تصدع المجتمع العراقي من خلال ما طرأ من انقسام بين ابناءه على اسس طائفية وسياسية وثقافية ومناطقية، وانعدام التواصل في ما بينهم، فضلاً عن سياسات التهجير القسري والهجرة للخارج ، والتأثر بقيم الصراع المذهبي وثقافته وتداعياته على التربية والتكوين المعرفي. كما تأثر مجتمعنا العراقي بالاحداث الامنية وتصدع آليات الاستجابة للاوضاع الاقتصادية والقدرة على الرفض بعدما جرى تهميش دور مؤسسات المجتمع المدني.
وقد سارت عملية تفكيك الدولة جنباً الى جنب مع عملية تصديع المجتمع العراقي فكانت النتيجة انهياراً شبه تام على الصعد السياسية والثقافية والمعرفية والقيَمية.
لقد اعتبر عقد الكوارث ابتداءاً من الاحتلال الامريكي للعراق، المختبر التاريخي والاجتماعي والسياسي لتناقضات مجتمعنا العراقي. وتجلت في النظام السياسي وما يقدمه من مكاسب وفوائد لطائفة على اخرى، وحدثت في اطار صراع داخلي بين العراقيين انفسهم حول المسار التاريخي الذي كان على وطنهم ان يأخذ به في مرحلة تاريخية دقيقة اتت في سياق ظروف عربية واسلامية اقليمية محيطية به، الى عوامل مؤثرة وفاعلة في خلق التجاذبات الطائفية فيما بين ابناء البلد الواحد.
لقد اصبح العامل الخارجي خلال عقد الكوارث هذا، هو الذي يتحكم في مسار العقدة العراقية بعدما ظهرت مشاريع خارجية وداخلية تتفاعل داخل الطوائف والاحزاب والميليشيات العراقية، فشجعت القوى الخارجية على تأزيم العلاقات ذات الطابع النزاعي بين العراقيين باغداق الاموال والاسلحة واصناف المساعدات على المتَذَهبين الميليشياوين، وفرض ايديولوجياتها وسياساتها عليهم حتى اثناء وضع اتفاقيات وتسويات سياسية للعقدة العراقية.
وقد كشفت تطورات عقد الكوارث، ان تفاقم التناقضات بيننا، ادى الى تفشي ظاهرة عسكرة السياسة والمجتمع العراقيين، وقضت على كل امكانية للعودة الى حالة السلم من دون جهد او ضغط خارجي.
ان اطلاق- عقد الكوارث (التسمية لي)- على الحالة العراقية، هو في راينا الاكثر علمية وموضوعية، لان كوارث وبلايا هذا العقد لم تكن في كثير من مراحلها صراعاً داخلياً صرفاً بين العراقيين.
لقد استطاعت عوامل خارجية ان تستغل تناقضات المجتمع العراقي وضعف تماسكه وانعدام سيطرة الدولة عليه والامساك به، وهشاشة بناه المؤسساتية والسياسية للتلاعب بالتوازنات الداخلية في سبيل تحقيق مصالحها.
وفي هذا السياق كان يتم اصطناع وسائل الاضطراب الداخلي او تغذيته لتأجيج عوامل النزاع بين العراقيين.. علاوة على خلفيات ومسببات وابعاد كوارث هذا العقد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.. فقد حملت هذه المرحلة المصيرية من تاريخ الوطن اكثر من معنى:
1- طرحت شرعية الكيان العراقي ومدى ولاء العراقيين لهذا الوطن المسمى العراق.
2- تخللت هذا العقد صراعات سياسية واجتماعية ودينية بين المناطق وبين الطوائف وداخل الطوائف.
3- كانت فترة زمنية (وما زالت) سيطرت فيها انماط جديدة من الثقافة والتفكير المناطقي والطائفي والعلاقات والقواعد الاجتماعية بشكل مختلف عما كان عليه الوضع قبل 9/ نيسان/ 2003.
4- تسبب عقد الكوارث هذا في تعطيل سلطة الدولة وسيادتها وشل مؤسساتها وابتلاع مجتمعها المدني من قبل الميليشيات وقوى الامر الواقع.
5- شكل اطاراً زمنياً ومكانياً لمرحلة تاريخية اجتماعية امتلأت بالتغيير وبالسلبيات اكثر من الايجابيات.
اني اعتبر، ان سنوات عقد الكوارث التي عاشها العراقيون واكتووا بنيرانها تعتبر سنوات مسروقة او ضائعة من حياة كل فرد منهم سواء اكان طفلاً ام شاباً ام كهلاً. وارى ان حالة انتظار البناء والاعمار وبناء السلام وعودة الحياة الى طبيعتها كانت في حد ذاتها خسارة للسنين المقبلة من عمر كل عراقي.
ان استحضار ما حمله هذا العقد الكارثي من احقاد دفينة وذكريات أليمة وآثار مريرة وهواجس لم تخمد في نفوسنا بعد، ولا القاء التهم جزافاً او نبش الماضي وفتح ملفاته والدعوة الى المسائلة وتحديد المسؤولية او القاء الضوء على بطولات حقيقية او زائفة هنا وهناك واخفاء صفات الوطنية او الخيانة على هذا وذاك وتحميل الآخر المختلف مسؤولية ما فعلته ايدينا وايدي الآخرين بعراقنا، كي لا يؤدي نسيان ويلاته واضراره الى تكرارها واعادة انتاجها من جديد.
علينا اذن القيام بقراءة عقلية واعية لمعرفة جذور ويلات هذا العقد التي مرت بنا، واسبابها وكيفية نشوئها وتفاعلاتها وتداعياتها وتطوراتها ومساراتها وخواتيمها، واستعادة هذه التجربة الاجتماعية، السياسية، السلوكية، المعرفية، في ذاكراتنا، واستيعاب دروسها وعبرها، وعدم طمسها.
فعلينا اذن ان ننعش ذاكرتنا وذاكرة اجيالنا الصاعدة بان تقاتل ابناء الوطن الواحد يجر الى الخراب والمآسي على البلاد فيما يؤدي الى الحوار المنطقي بينهم الى التغلب على كل الصعاب.
ان عقد الامل على فجر جديد مبني على المصالحة والغفران والتسامح والاعتراف بالآخر كان على الدوام صفة ملازمة للعراقيين. فتعددية مجتمع العراق ونظامه الطائفي ووضعه الجغرافي السياسي جعل هناك استحالة في ان يتمكن العراق بنفسه من محاكمة المسؤولين عن جرائمهم التي حصلت ضد الانسانية… لذلك فأن ميل العراقيين نحو المصالحة والغفران والتسامح ونسيان ما جرى بكل مآسيه هو اكبر من جنوحهم نحو تحقيق العدالة او الانتقام من مجرمي عقد الكوارث.
ان عراقنا يستحق ان يعطى فرصة اخرى للحياة اذا ما تحلى ابناءه بالجرأة على نقد الذات ومراجعة التجربة ونبذوا نوعيّ التكاذب الاجتماعي والسياسي واعلنوا صراحة عن مواطن الضعف والوهن في تعايشهم الطوائفي، ولم يخفوه بمساحيق تجميل مغشوشة لتعايش طائفي هش يتأرجح بين حين وآخر بين الوفاق والنزاع. وفي استطاعة العراق ان ينتقل من حالة التعايش الطوائفي الى حالة تعايش وطني تتجسد فيه قيم الحرية والعدالة والمساواة والتكافؤ في حقوق المواطنة والتعبير، ويجب ان يكون هذا الامر هدف الجميع.
ويمكن بالفعل تحقيق ذلك عندما يتفق ابناءه فعلاً على صيغة الكيان التي يريدون وعلى الدولة والهوية والديمقراطية التي ينشدون وعلى الخارج الذي يتعاملون معه او به يستنجدون، وعندما لا يؤدي الغاء الطائفية السياسية والغاء الطائفية الاجتماعية الى بروز عقدة الخوف عند المسيحيين والاكراد والعرب المسلمين: عند الاولين بسبب وضعهم الديمغرافي في المحيط العربي الاسلامي، وعند الاخرين بسبب خشيتهم على شرعهم من علمنه الاحوال الشخصية.
هل يمكن ان تنجح اذاً محاولة بناء عراق جديد يصبح فيه البلد واحة للحرية والديمقراطية والعيش الواحد بدل غيابها واضطهاد انسانه في لقمة عيشه وكرامته وحقوقه….؟
بالتأكيد يمكن ذلك. في ما لو عرفنا نحن العراقيين كيف نخرج من اوهامنا النظرية ونتحلى بالعقلانية والواقعية في التعامل مع الامور التي تخص الداخل والخارج ومن دون عزل هذا الداخل عن الخارج وبخاصة العربي او تمكين هذا الخارج/ المختلف من الافساد في الداخل. فاذا ما تماسك هذا الداخل وتضامن في ظل دولة قوية قادرة على صنع قرارها بنفسها، امكنه الحد بالتأكيد من تأثير الخارج فيه ولا يعود دولة مشرعة الابواب.
العراق يستحق الحياة اذا ما عرف ابناءه كيف يجدون لغة مشتركة يتحاورون بها، ويتعرف بعضهم الى البعض الآخر، وعلى مخاوفه وهواجسه وتطلعاته اكثر من ما يغرقون في معرفة انفسهم.
العراق، يبقى مشروع حياة اذا ما عرف ابناءه كيف يحمونه بعقولهم قبل ارواحهم ويصونونه من انفسهم ومن مؤامراتهم وانانيتهم قبل مؤامرات الغرباء عليه.
ان انسحاب الاحتلال الامريكي، وضع العراقيين سياسيين وافراداً امام امتحان صعب ينحصر في قدرتهم على التعايش معاً وحكم انفسهم بانفسهم من دون وصاية خارجية. كما ان التوافق على الدولة التي ينشدون هو مقدمة ضرورية لازمة لصيغة التعايش الفريد. وبكلام آخر كلما استطاع العراقيون ان يحلوا بانفسهم مشكلاتهم بالحوار والعقلانية اقتربوا من بناء الدولة التي ينشدون.
واستناداً الى ان عقد الكوارث والبلايا كان مرآة مجتمع العراق، وانفجارا من اعماق كل فرد فيه قبل ان تكون انفجاراً او سيارة مفخخة، ولان هذا العقد امتلاء بالمتناقضات: الحرب والسلام، الحب والكراهية، الفرح والحزن، الحياة والموت، الضوضاء والسكون، البراءة والشر… فسيجد كل منا نفسه بشكل او بآخر:
– المحرض على الحرب والتقاتل، وعلى شطر المجتمع المدني، وضرب الاقتصاد الوطني، والمختلف على نظام بلده وهويته، ومحاولة كل منا تغييرهما على طريقته الخاصة الى درجة تدميره والاستعانة بالخارج لانجاز هذه المهمة.
– ضمن الفئات الاجتماعية التي انعكست ثقافتها الطائفية وخصوصيتها على بنية النظام السياسي.
– ضمن ميليشيات اغتالت الدولة عبر سلبها شرعيتها ومكامن قوتها ودورها ومواردها، وبتر رجليها كي لا تنهض من جديد، ولم يقف امام العدالة لمحاكمتهم على ما ارتكبوه من فضائح حتى طلب الصفح من الوطن، بالاضافة الى افراد تنظيماتهم الذين استباحوا المجتمع المدني وقوضوه وارهبوا الناس بقيمهم المنحطة وسلوكياتهم القذرة قبل اسلحتهم الفتاكة.
– ضمن القتلة والمرتزقة الذين ذبحوا الناس وقتلوهم عشوائياً…
– ضمن الاكثرية الخائفة التي وقفت تتفرج على الزوجة التي ترملت، والطفل الذي يتم، والاسرة التي سقطت في آتون التضخم وفقدت معيلها واضمحلت قدرتها الشرائية.
– ضمن الطبقة الوسطى، القاعدة الاولى الاساسية في البناء الاجتماعي والقيادة الفكرية والسياسية في الوطن التي اجبرتها الاحداث على التراجع والتخلي التدريجي عن دورها فهمشت او غيبت او هجرت.
– ضمن اولاد الفقراء الذين ازدادوا بؤساً وتحولوا الى متسولين للمساعدات الدولية…
– ضمن من يراقب المعرفة التي انهارت وافسحت مكانها للجهل والتجهيل والانغلاق والانعزال.
– ضمن القوة الخارجية التي استغلت التناقضات والخلافات الداخلية بين العراقيين لتمرير مخطاطاتهم التي فاقت حجم هذا الوطن وخلافات ابناؤه.
ان عقد الامل على فجر جديد وتعايش حقيقي يبقى مرهون بيد فئة الشباب الجيل الحالي والقادم، يعود اليهم ان يهدموا الحواجز التي امكنها ان ترتفع في اثناء عقد اليم بكل سنواته، فلا يقيموا حواجز جديدة داخل البلد بل على العكس من ذلك اليهم يعود بناء جسور بين الاشخاص وبين الاسر وبين الجماعات المختلفة، وبهم نأمل ان يرسوا مبادرات مصالحة للعبور من الريبة الى الثقة. عسى ان يتعظ العراقيون بالمآسي التي خلفتها نزاعاتهم الداخلية ورهانهم على الخارج، وان يؤمنوا بان توحد مجتمعهم انما يبدأ اولاً واخيرا بالتوافق والاعتدال ونبذ العنف والقبول بالآخر واعتماد ثقافة مجتمعية رصينة وصلبة ذات افق انفتاحي واستخدام لغة واحدة تؤسس للدولة العادلة التي تحتضن الخصوصيات وتقبل بها ولا تجسدها في مشروع ايديولوجي تقسيمي.