18 ديسمبر، 2024 8:59 م

عقدة التفاوت الطبقي تُكلّل بجائزة الغونكور

عقدة التفاوت الطبقي تُكلّل بجائزة الغونكور

جميل أن تُكلّل رواية صادرة في السنة نفسها بجائزة. هذا ما حدث مع الكاتب الفرنسي نيكولا ماتيو الذي حاز، يوم الأربعاء 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2018، على جائزة الغونكور، وهي من أهم الجوائز الأدبية الفرنكوفونية، عن روايته الموسومة “أطفالهم من بعدِهم” والتي تقع في 432 صفحة، والصادرة يوم 22 آب / أغسطس 2018. بدأ الكاتب حياته كروائي مع الرواية الموسومة “الحرب للحيوانات” وهي رواية سوداء، متعددة الأصوات. تلقي، في 360 صفحة، الضوء على الطبقة العاملة، في منطقة فوجا الفرنسية، التي وجدت نفسها بين يوم وضحاه مسحوقة، تعاني من البطالة والفقر بعد ان أغلق المعمل أبوابه وقضى على أحلام العمال وأبنائهم.
وبعد أربع سنوات، عاد الروائي، من جديد، ليفرض صوته من خلال روايته الثانية الموسومة “أطفالهم من بعدِهم”. نص حاد، كبير ويحمل طموحا أكبر. إن الكاتب يقدم لوحة اجتماعية تجري أحداثها في جهة اللورين الفرنسي الذي هشمته أزمة السنوات الأخيرة من فترة حكم متران وبداية حكم شيراك.
كان الراوي أنطوني، عام 1992، في الرابعة عشرة من عمره. في هذا العام، بدأ سرد القصة التي غطت أربعة فصول متتالية، وهي أجزاء الرواية؛ صيف 1992، وصيف 1994، وصيف 1996،وصيف 1998. كان يتساءل كما الكاتب إذا ما حان وقت مغادرته سن المراهقة. تعرف على ستيف وأحبه. وفي حفلة تعرفا على شابين آخرين، حسن وكْلِم من اصل جزائري. هكذا أصبحت الرواية عبارة عن بورتريه جماعي على شكل موزاييك يمثل كل مكونات المجتمع التي حاول الكاتب أن يعيد بناؤها دون حكم مسبق عليها، منطلقا من فكرة لكل مكون صغيرأسبابه ودوافعه.
غلب هؤلاء الشبان الأربعة الملل والفقر المحيط بهم فقرروا مغادرة المراهقة بهدوء والتحقوا، بدون استعجال، بسن البلوغ. خلال أربعة فصول الصيف المتتالية يقضيها أنطوني وأصدقاؤه في مدينة نهشتها البطالة وجعلتها دون مستقبل واضح المعالم. يقع في فخ أسلاك شائكة لحياة لا مفر منها؛ حياة طفل تعيس بالمدرسة، طائش، من عائلة مكسورة الجناح بعد فقدان الأب لعمله.
هذه الرواية تحكي قصة أنطوني والمجتمع الذي يعيش فيه هو ووالده وأمه وستيف وحسن وكْلِم، وسط سلسلة انطلاقات خاطئة وأحلام متوقفة، ومشاريع فاشلة وانغماس في دوامة الخمر، والانعزال الاجتماعي.
هؤلاء الشبان يحلمون بمغادرة الوسط الذين يعيشون فيه، لكن القليل منهم يفلح في ذلك. لا ننسى أن الهياكل الاجتماعية والتفاوت الطبقي يلعبان دورا كبيرا. فالأغلبية مضطرة ومحكوم عليها أن تتحمل هذه الحياة المشابهة لحياة آبائهم كلعنة هالكة.
كان الكاتب، أيضا، يعيش في وسط بين الشعبي والطبقة الوسطى. كانت مهنة أبيه ميكانيكي كهرباء وأمه محاسبة. وهو وحيد والديه. سُجل في مدرسة خاصة. لكنه سرعان ما اكتشف الفوارق الطبقية من خلال ملابسه وما يرتديه أبناء البرجوازيين. فكان يتمنى أن يكون كاتبا وأن ينتقل إلى وسط ثقافي نخبوي. وهو متأثر جدا بالعالم الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو (1930-2002) الذي كان مهتما بعدم التكافؤ الاجتماعي، مرورا بأول كتبه “سسيولجية الجزائر” عام 1958 و”بؤس العالم” عام 1993 إلى أخر كتبه بعد وفاته “مخطط تحليل – ذاتي” عام 2002، وآني إرنو (1940) المتأثرة أيضا ببورديو والتي غالبا ما تعود في كتاباتها إلى الوسط العمالي الذي ترعرعت فيه. ويتميز أسلوبها بالحيادية والموضوعية دون إصدارحكم مسبق، ومعروف عنها أنها تتجنب أسلوب البلاغة كالمجازات أو المقارنات.
يتوق الكاتب إلى الانتقال إلى الضفة الأخرى، حرية وحياة أفضل، كما تتوق إلى ذلك الروائية الهولندية الشابة (1991) ماريكَ لوكاس غِينْفلد وشخصيتها الرئيسة “معطف” في روايتها الأولى الموسومة ” الليلة إزعاج” ( 2018)،والتي وجدت صدى طيبا لدى النقاد وقراء نوادي الكتاب والقراء عموما. الكاتبة كما “معطف” يريدان الإفلات من ضغط القوانين الصارمة لعائلتهما البروتستانتية المتشددة والوسط الضيق الذي يطبق على أنفاسهما.
نعود إلى روايتنا، إن آليتها مظلمة لكن الرواية بحد ذاتها ليست كذلك. فإنها تعكس طاقات هؤلاء الشبان وضوء وحرارة فصل الصيف المكهرب بالرغبة الجنسية وهوس عيش هذه الشخصيات. فالنص يتحرك ويرقص ويشد القارئ إليه بحدته الرائعة وبحساسية اللانهائية؛ حدة نظرة مزعجة وحوارات، وجمال مفجع يحبس الأنفاس.
إنها تراجيديا وهي نتيجة فشل خدعة جماعية تنتهي بشكل هزلي إلى وهم الوحدة والإخاء خلال نهاية كأس العالم لكرة القدم لعام 1998.