لا أدري لماذا تراني انجذب دائماً، وبشكل تلقائي ، إلى ثقافة، وتقاليد الريف ، بشكل قوي، يصل إلى حد التماهي المطلق، تاركا خلفي ،كل إغراءات التمدن، وهوس التحصيل العلمي، وبراغماتية العصرنة. فتجدني منذ كنت صبيا، آنس لحديث ختيارية القرية، الذين كانوا كأنهم عائلة واحدة ، واستمتع بمقابساتهم، وانجذب إلى مجالس سمرهم، وانبهر بعفويتهم، وصدق عواطفهم، ونبل مواقفهم. ولعل هذا هو ما يجعلني ، اتلمس فيهم أصالة روح الريف، وأجد فيهم مثال الانتماء الصادق للبيئة، في الزمان، والمكان، والإنسان.
ولعل معاصرتي، ومعايشتي للرعيل الأول منهم ، منذ خمسينات القرن الماضي، والتصاقي العضوي في رحاب فضائهم ،وتفاعلي معهم ،بتماه مطلق، والتقاطي الكثير، من استلهاماتي الوجدانية ، من أعماق هذا الوسط، الطافح بالإيحاءات، من طبيعة نهر دجلة الساحرة،التي تتوسد قريتي ضفافه المتهدجة مع جنبات عبارة السفينة،والزاب المشاكس في مجراه، بانسيابه المتمرد في بطن أمه دجلة، إذ يمتزج برحابها الخلابة، في نقطة شمال القرية، حتى ان قريتي حملت اسم المخلط أيضاً، تيمنا بهذا المعلم الجغرافي المتميز، كانت كلها عوامل نشأة بيئية، تضاف إلى عوامل نشأتي الاجتماعية،وقد تكون هي التي رسخت في خيالي بتفاعلها معا،مجسمات ثقافة الموروث الشعبي، التي سكنت اعماق ذاتي، في وحدة متماسكة، لا انفصام لها،وذلك رغم كل ما واجه هذه الإلفة، من تحديات جدية، مع حركة التطور بمرور الوقت.
وانطلاقاً من حقيقة خلفية تلك النشأة، فإنه يبدو أن اهتمامي، بموضوعة الحفاظ على التراث، نابع من قناعتي التامة، بضرورة التواصل الحي مع التراث، باعتباره، رغم كل بساطته، منجزا تاريخيا تراكميا، من منجزات أي قوم ،وذاكرة حية له، باعتباره رافد أصالة متدفقة، وبذلك فإنه يشكل قاعدة الانطلاق إلى الحداثة، والتطور، حيث اعتبر التقاليد الموروثة، نقطة التوازن مع العصرنة،التي تهدد بوسائلها المتطورة هذا الموروث الشعبي بالانقراض،وبالتالي حرمان الأجيال اللاحقة من هذا الإرث النفيس، الذي يشكل امتيازا جماليا، وقيمة معنوية، وطاقة روحية، تجعل الماضي، ثروة من الحس المتواصل مع الحاضر، المتطلع إلى المستقبل الحالم، الذي لا بأس من التكيف الواعي مع ايجابياته، والانخراط مع منافعه، دون خسارة الموروث الإيجابي من التراث ،وإلا فإن الحال سيكون مستلبا لا محالة ، ويعاني عندئذ، من ضياع،واغتراب موحش، مهما بدا لنا الحال زاهيا،وهذا ما بدء الكثيرون يستشعروه اليوم ، ويحذروا من تداعياته السلبية.