23 ديسمبر، 2024 12:44 ص

عريان في ذمة الغياب

عريان في ذمة الغياب

قوافينا يتيمه وتنشد اليرحون

عريان الشعر هم بعد أله رده

عريان .. ذلك الفتى السومري المغروس باعماق طين الجنوب تراقصت امام وعيه وناظره ظلامات (السراكيل ) والشيوخ للفلاحين وتعسف الحكومات واستبداد الاقوياء فحفظت ذاكرته كيف تدفع الانثى ثمنا لجريرة ا خ او ابن عم ( فصليه ) وكيف تحرق البيوت على اهلها وكيف يقسم المحصول في نهاية الموسم بين (السيد ) والشيخ وبائع البذور وتبقى حصة من سهر الليالي وعانى تعب النهارات في (المسطاح ) عبارة عن قليل حب امتزج بالتراب وعليه ان يقبل بهذه القسمة في كل الاحوال وبمرور الايام اكتنزت ذاكرة الفتى الاف الصور الذي ستجترها ذاكرته ذات يوم لينسج منها خيوط شعر تغير من ذائقة الشعر بعدما تصنع له اجنحة يحلق بها بعيدا في البراري وازقة المدن ودروب القرى وحتى مدن الشتات العراقي اينما كانت .

وتحت سياط العوز ودع سيد خلف وعائلته (ولايته ) قلعة سكر باتجاه مدينة الديوانية ليفتح محل بقالة صغير ويدخل عريان المدرسة مع اقرانة وهنا كانت له اول بصمة شعرية وهو لازال طفلا يوم وزعت ادارة المدرسة ملابس اعانة للطلاب الفقراء ولم يعطوه شيئا لكن في النهاية حصل على (بدلة ) فهزج بباب الادارة قائلا : ( من جدي ولامنة غيره ) ولم يتوقف موسم الهجرة الى الشمال في الديوانية بل وصل بغداد سريعا فارتجت على الفتى السومري المفاهيم وشاهد ظلم بغداد لايختلف عن ظلم الجنوب الا باساليبه وطرائقه فالفقير يظلم اينما تواجد فدخل معترك السياسة املا في الخلاص والدفاع عن نفسه وعن الفقراء الاخرين لكنها افضت به الى السجن والحكم بالاعدام مرتين وفي محاجر السجن تعرف على صاحب مدرسة الشعر الشعبي الحديث ( مظفر النواب ) فاسمعه بعضا مما يكتب فنصحه بترك الشعر والبحث عن هم اخر لكنه اصر حتى اجبره ذات موقف على الاعتراف بشاعريته وفي مطلع سبعينات القرن الماضي كان ينفث مرارته من الوضع الذي لاامل في تغييره ويسرب صور الظلم التي ترسبت في اعماقه الى الاخرين ويعقد المقارنة كل حين ..

(آنه مو اول زند يشتل شلب ويحصد بردي )

نعم يقول كل الزنود في الجنوب تغرس شتلات العنبر لكن المناجل في موسم الحصاد توجه بقوة متسلط نحو البردي ليتنعم بالعنبر غير اهله .

(ياضعن شت عن هله وحداي غربه البيه يحدي )

وكيف لا وارتال الصاعدين الى الشمال الهاربين من جحيم وجوع وعوز الجنوب تتزاحم في الطرق المؤدية الى العاصمة لترسم مناطق النزوح فيها .. الشاكرية .. الميزره .. العاصمة .. النزيزه .. خلف السدة .. شطيط وغيرها ..

(آنه خلاني الوكت ناعور بس اترس وابدي)

يالمرارة الحياة في الجنوب نزرع نحن وياكلون هم وفي العاصمة نبني القصور فيسكنونها ونسكن الصرايف ونعمل وهم يربحون .. لااعرف مالفرق بين كل جنوبي والناعور ؟ بعد ان سخرونا لخدمة ثراؤهم المسروق من عرقنا .

وفي نهاية ستينات القرن العشرين استبدل حكم انقلاب بانقلاب جديد فوجد ان الفرصة سانحة للتحريض على الثورة خصوصا وان الانقلابيين الجدد لازالوا بحالة ضعف فصرخ :

(عمت عين الوجاغ الماتشب ناره )

وانتظر لكن لابوادر على تحرك ثوري للفقراء فوعد باغلى مايملك لمن ياتيه بخبر عن الثورة : ( ادك روحي نذر للجايب بشاره واورجه اعلا الجروح المالهن جاره ) اي لاحل ولاعلاج ولاشفاء لهذه الجروح من غير ثورة عارمة باسم الفقراء تعيد لهم حقوقهم ولما طال السكوت ذكرهم بتجارب الاخرين ورموزهم فصدح :

( لون كلمن تصوب مات جا مامات جيفارا وهوشي منه هلبت كطعوا اخباره )

وهكذا ذهبت دعواته هباء حتى انقضى العقد السبعيني وكبرت خيبته فقيل على لسانه :

( دثي .. دثي حتى .. صار بعثي )

وجاء العقد الثمانيني بالحرب على ايران فتمت عسكرت الشعب والحق الشباب بجبهات القتال والحق الشعراء بفيلق لطيف نصيف جاسم فكان تواجد عريان في الفيلق ( بين سطر وسطر ) وما ان خرجنا من حرب ايران حتى دخلنا الكويت وعريان ( اذاعته مقصوفه ) لاتحريض على الثورة ولا دعوة لها ولابث اشارات من بعيد عدا قيامته يوم ملجـأ العامرية :

والبيبان صرخه بلا صدى ولاصوت

صفنة كنبره بوحشة مسية كبور

واطل في مطلع التسعينات الحصار بوجهه المقيت على الشعب العراقي وادمن عريان الراحة فلا ثورة واصبحت مواسم الهجرة من الجنوب بعيدة نسبيا ورحل الشباب وضعفت مقاومة الجسد فقضى هذه الفترة بين الوقوف على التل او الخلود للراحة ومداعبة احفاده او في رحلات الصيد لكنه كان يشكو شحة الفرح :

تعال بليل ثاني وحل حلال الخل

شحيحه افراحنا ودكانها معزل

البسمه نبوكها من الاه والياويل

وصياد الهموم بدفتره يسجل

وكلما تراتبت الايام تظهر شكايات جديدة ويصيبه الملل من الاشياء حتى وصف من يحيطون به ذات شطحة : ( ليل وكهكهة غمان ) ووصمهم بـ(رضاعة قواطي )

وشاخ فيه كل شي الا خلافه وصداقته لفرس الرهان الاخر في ميدان الشعر اذ قال الكاطع ( مامرتاح ) فاتى الرد صاعقا : ( ماترتاح ) ثم بلغ الملل والضجر من الايام والعمر مداه اذ صرح واقر ضجرا : ( عمر اشما تلف بيه طول )

لكن موت الكاطع بث به الحياة من جديد ودفعه للانتشار مرة اخرى فكان موجودا ومتواجدا بحيوية الشباب في مجالس الشعر والمنتديات والصيد لكن السقوط من اعلى الخط السريع كان الانذار الحقيقي للرحيل .. رحم الله ابا خلدون كان شاعرا لايتكرر وقد يطول الانتظار حتى يخرج من رحم ارض العراق شاعرا يماثله عزما وشكيمة وخبرة بالشعر والمعاني الكبيرة وكأني به كان يردد في ليلة رحيله رائعة صديقه اللدود :

الليلة اموت

الليلة اخر ليلة

الغيم مد ايده على راسي

والمطر شد حيله

اوف نعشي شلون اوصله لباب اهلنه

ومن يكابلني عليه وانشيله

الليلة كلبي ينام دافي

وتندفن وياه حرارة جيله

الدم ينبع من سراديب الضلوع

ويرسم جروحي على الفانيله

تفيض روجات الحسافة وتكسر الشط

يا سنيني الرايحات وداعة الله

انطني بوسه

موادع الخل لخليله

يا نخل يا عاكر احبل

ضوك طعم الفاجعة بموتة فسيله

وصيح ..

يا هور الحزن

لا تغفى يا هور الحزن

تابوت اجاك ويه الكصب

فزع طيور الماي خلها ترافكه وتنعيله

تابوت اجاك ويه الكصب

بهداي حطه على الجرف

ومحمداوي من الكلب غنيله

اتمنى الشته .. وحضن الحبيب

وسيف كاتلني كبل هالليله ..

رحم الله الشاعرين الكبيرين كاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف