لم يكن ترشيح التحالف الوطني للدكتور حيدر العبادي في 11 أب لتشكيل الحكومة يمثل علامة فارقة في المشهد السياسي العراقي واشارة واضحة لنهاية الحقبة المالكية (8سنوات) والتي كانت الأسوء في تاريخ العراق الحديث فحسب ، بل مثلت تغييرا جذريا في الفكر السياسي التقليدي المهيمن على التيارات السياسية العربية القومية والدينية والمبنية على تقديس الأشخاص والزعامات وتجسيد الأوطان في ذواتهم وهو مايترتب عليه فناء الوطن بهلاك زعيمه الأوحد ، حيث أعاد هذا التكليف التأكيد على ترسيخ التجربة التعددية التوافقية في العراق ودفعها بأتجاه توسيع دائرة المشاركة السياسية والمضي قدما نحو اللامركزية الادارية وانهاء فكرة القائد الضرورة والتي أراد المالكي استرجاعها للذاكرة العراقية بكل مأسيها والمضي قدما بالعراق عموما وبالشيعة تحديدا الى النهاية المأساوية خصوصا اذا ما أقترنت نهاية حكمه بمحاكاة لسيناريو نكسة الموصل .
لقد كان تاريخ الحادي عشر من أب من اللحظات النادرة التي تمتع بها ساسة العراق عموما والتحالف الوطني خصوصا بالجرأة وبحس عالي من المسئولية الوطنية وشعور كبير بحجم الكارثة التي كان سيمثلها بقاء حاكم مثل السيد المالكي لولاية ثالثة ، وهي كارثة سرعان ماتبدد القلق من وقوعها بتكليف العبادي ولعل ذلك مايفسر بيانات الترحيب المتتالية و المهنئة من كل حدب وصوب بشكل لامثيل له في الشرق الأوسط حيث توحدت فيها دول الخليج السنية وايران الشيعية (لأول مرة عراقيا) التي صاغت مع غريمتها الولايات المتحدة اتفاق نقل السلطة وعززتها اشارات المرجعية الدينية المتعاقبة بضرورة التغيير وواكبها تأجيل النظر من قبل المحكمة الاتحادية في الطعن بتكليف العبادي، فكانت جميع هذه الاجراءات بمثابة رسائل ادانة لسياسات سلفه (أي المالكي) الذي أضطر أخيرا الى رفع الراية البيضاء بعد أن بلغت الضغوط والمناشدات المحلية والأقليمية والدولية ما لاطاقة للرجل على مقاومته ، فكان خطاب الوداع الذي جدد فيه الرجل الهجوم على جميع الأطراف.
الداخلية والخارجية ذاكرا فيه مأثر حكمه الرشيد!!! عوضا عن تقديم اعتذار لكافة أبناء الشعب العراقي عن كافة المأسي التي تسبب بها لهم اثناء فترتي ولايته ، وكالعادة حاول المتملقين والمنتفعين تصوير خطابه كمثال للتضحية والايثار والحكمة والزهد في الحكم وهي أوصاف لايمكن للمالكي أن يتصف بها بأي حال من الأحوال كما أنها مناقضة للحقيقة التي تقول أن الرجل الذي هددنا بفتح أبواب الجحيم قبل أيام استسلم ورضخ مضطرا للواقع بعد أن تخلى عنه حلفائه في الداخل والخارج وقوبل برفض سياسي وشعبي عارم لولايته الثالثة وهو أمرا نادر في الشئون السياسية العراقية منذ العام 2003.
أن المهمة التي تنتظر الدكتور العبادي ليست بالسهلة على الأطلاق ومفتاح نجاحه بها تكمن في عدة أمور منها ايجاد ألية مناسبة لاستعادة السنة العراقيون لأحضان الدولة وعزل المتطرفين منهم وهو أمر لايمكن اختزاله بشق عسكري فقط تستنسخ من خلاله تجربة الصحوات لقتال المتشددين بل يجب أن يكون أساسه سياسيا قائما على التفاوض الجاد لتلبية مطالب المحافظات الست بعد اجراء بعض التعديلات عليها ، كما لن يكون دوره سهلا في تحقيق الموازنة بين تحقيق الطلبات الكردية من ناحية ولجم طموحات البازراني الأنفصالية (التي عززتها ماتردد عن استعداد بعض الدول لتزويد البيشمركة بالسلاح دعما لها في مواجهة المتشددين الاسلاميين) من ناحية أخرى والتي يبدو بأنها ستكون سيفا مسلطا على بغداد خلال المرحلة القادمة ، أما شيعيا فالأمر لايخلو من الصعوبة فالرجل الذي طالب العشائر السنية بالتوحد مع الجيش العراقي لقتال داعش سيكون مطالبا بأن يضع حدا هو الأخر لسطوة الميلشيات الشيعية على الدولة والمجتمع في العراق وحصر السلاح بيد الدولة ، لكن مهمته الأصعب تتمثل في اقناع الغالبية الشيعية بالتنازل عن مبدأ الأستحواذ الكلي على الدولة العراقية وافساح المجال لشراكة حقيقية ومتوازنة مع السنة والكرد ، ناهيك عن أولوية اقرار الموازنة المتعثرة و ايجاد الحلول السريعة والبدائل المناسبة لأزمة الخدمات الأساسية (الكهرباء – الماء) وتنشيط القطاع الخاص وفتح أبواب العمل أمام مئات الأف من العاطلين وتوفير المناخ الأمن لسوق العمل العراقي بما يعزز من فرص جلب الأستثمارات الأجنبية واعادة تحريك عجلة الأقتصاد ، أمام هذه التحديات يجب على دولة رئيس الوزراء المكلف العمل بروح الفريق الواحد وبعقلية التكنوقراط الوطنية والترفع عن الانتماءات المذهبية والعرقية بحيث يكون لكل العراقيين وهي مهمة شاقة تستوجب التمرد على القوالب التي صاغها السيد المالكي لنفسه طوال السنوات الثمان التي قضاها كرئيس لوزراء العراق . فمن المهم جداً أن يطوي العراق صفحة المالكي وهو ماحصل فعلاً ، لكن الأهم حقاً هو أن يطوي العراق صفحة سياسات المالكي إذا ما أريد لهذا الوطن البقاء واحداً موحداً، فليس لدينا إستعداد لكي نكون حقلا للتجارب الفاشلة والتي دفعنا ثمنها دما و مالاً.