الوطن يجتث ذاته … يخون ذاكرته … يخلع جذوره ليطفو على سطح الأقدار السيئة , تفترس كيانه ضباع الطوائف والقوميات , في جسده استقرت مخالب الجوار لأستئصال عراقته, لينتهي حصص في متناول قطاع الطرق , لم يبق من يهوده سوى حفنة تراب حملوها معهم عطر عراقي لجالية عراقية مهجرة الى اسرائيل والشتات , جذورها ترفض التأقلم لغير العراق وطن, الصابئة المندائيين بنات وابناء حضارة القصب والطين الحري هُجروا تاركين ذكرياتهم جريحة تتبلسم بنسائم الأهوار وزلال دجلة, ارواح اجدادهم تتنفس برئة الجنوب الحبيب, ولم تكن وحشية الإجتثاث المخيف للكرد الفيلية عام 1980, مأساتهم إختفت تحت رمال النسيان وعبثية الصبر في مستنقعات الوعود ووهم التعويض من داخل مخيمات جهرم, مظلوميتهم إلتجأت للصمت أو ربما قطع لسانها الإنتظار, المسيحيون فقدوا نصفهم, ثم ثلاثة ارباع المتبقي و ثم .. ثم وصبرهم يستغيث بأصالة ارثهم الحضاري, ارحلوا ايها الدخلاء مصاصي دموع الألم, انتهت وظيفتكم وعراقنا قد استغنى عنكم, الإيزيديون, عراقيون مسالمون على ارض اجدادهم, يجترهم الخوف من محيطهم, يتوجعون بين سندان الأسلمة ومطرقة التكريد, الى جانبهم اشقاء شبك, تهرسهم همجية التطرف القومي.
مشروع تقسيم العراق دولة ومجتمع وجغرافية وثروات, لا يمكن له ان يمر بسهولة ما دامت هناك مكونات عراقية ماسكة بأرض اجدادها معتصمة بحبل تاريخها الحضاري وعراقة هويتهم وانتمائهم الروحي والمعنوي والوجودي, فأصبحت ثقافة الأجتثاث ايديولوجية الأكثريات الدينية والقومية, المتنافسة على حصة الأسد من ارض وثروات وتراث مكونات الأمة العراقية .
عملية تواطؤ, فيها من السفالة ما يفجع, استبيحت دماء وارواح واعراض وممتلكات, كل طرف يجتر بشاعاته تبريراً لفرهدة المتبقي من النسخة الأصلية للعراقة, اطراف دولية واقليمية لها مصلحة بمجازر الأجتثاث التي تسبق التقسيم دائماً, ابشع الأدوار, تلك التي ارتكبتها الأدوات المحلية لعملية التقسيم, كل في مخيلته نموذج لحجم حصته من الجسد العراقي, امارة شيعية لأصحاب السماحات, تصبح امتداداً جغرافياً واقتصادياً وامني قومي لجانبها الشرقي, المحافظات الغربية, امارة عروبية تتطفل على الفضلات التي ستتكرم بها امبراطوريات النفط للأسر الخليجية, ويضيف الأكراد الى مهازلهم, مهزلة اضافية غير مسبوقة , ففي العراق المقسم تصبح دولة الوهم الكردي, فريسة في بركة تماسيح, هكذا يصبح العراق (لا سامح الله) بعد اكمال جريمة اجتثاثه الذاتي وتقطيع اوصال مكوناته .
الأمر هنا افتراضي لا يبرر الأحباط والأنهزامية, ومثلما يراهن الطامعون على تقسيم العراق, العراقيون بكافة مكوناتهم الوطنية, يراهنون على وحدته وثبات كيانه امة واحدة موحدة, املنا في العراق, ومهما كثر عدد اراذله وعلاسيه والطامعين في اجزاءه, فشعبه وفي اللحظات التي يغطي فيها الحيف الرؤوس, ينتفض ويتمرد ويثور ليخلع عنه جلد الحثالات وزوائد الشر الطائفي القومي .
الواهمون اغبياء في جميع الحالات, يشرعنون لأنفسهم فضائح التبعية والخيانات, لا يصلحون لغير الوقيعة والخذلان والوحشية, تلك التي يرتكبوها الآن بحق المكونات, فالذي يستخف بدماء وارواح الأبرياء من مواطني المكونات العراقية, لا يمتلك قطرة حياء او رعشة ضمير, لقد استهلكه المهمات الوضيعة.
هنا ينبغي الا نكتفي بمطالبة بنات وابناء المكونات التي تعرضت وستتعرض لجرائم الأجتثاث بالثبات على ارضهم التي تستحق التضحيات مهما كانت جسيمة , بل يجب علينا كعراقيين , لنا معهم قرابة المصير والتاريخ والعمق الحضاري, ان نكون الى جانبهم, كون الحاضر والمستقبل, قضية وطنية مشتركة تجمع الكل الى بعضه, انهم وحدهم ورغم بسالة صمودهم وتضحياتهم, لا يستطيعوا مواجهة وحشية الأجتثاث, ولا وجود لأحد بدون الآخر, عراق الجميع هو من يدفع ضريبة اجتثاث مكوناته .
نحن الآن بحاجة الى نموذج وطني انساني للتضامن مع الأشقاء, نموذج على استعداد لدفع ضريبة التضامن, يتجاوز بهلوانيات التشكيلات الأستعراضية التي تتاجر بمآساتهم وتزكي بفعالياتها المدفوعة من هم ملوثون السمعة والتاريخ بمجازر الأجتثاث, تلك الأستعراضات كما خبرناها, لا تتجاوز اهدافها ابعد من اعادة غسل فسادها الضميري الأخلاقي, فأغلبها ان لم يكن جميعها, تقبض ثمن مسرحيات التعري مكرمات بالعملة الصعبة, كل ما تفعله, هو نقل مسرح الجرائم بعيداً عن اصابع الأتهام .
لا يمكن ان نتجاهل دور الرأي العام الوطني من داخل الحراك العراقي, هناك الكثيرون من داخل الدولة والمجتمع, لا يفصلوا معاناة المكونات عن كامل المعاناة العراقية, الأمر يتطلب الصبر والوعي والثبات والحراك المتواصل للتعبير عن نفسه عبر مواقف وطنية انسانية صريحة شجاعة, وهنا تمد المعاناة يدها لجميع الخيرين من مثقفين وسياسيين, كتاب واعلاميين وطنيين, انها المشتركات بلا مواربة, فعراق المكونات في خطر جدي, قروش التقسيم قد ضاقت مساحتها, ومستنقع شراسة النفس الأخير للفساد والخذلان على حافة الجفاف, انها تهيء نفسها لحفرة ستكون اقل مساحة واكثر عفونة لما حصل عليه السابقون, انه العراق دائماً, يبدأ من حيث ذاكرته الوطنية .
مايثير غضب المكونات, ذلك الوكيل (الوسيط) غير المشرف, الذي ينتحل صفة تمثيلها, ثم يمارس ترخيص وتقسيط معاناتها, فأصبح اكثر طائفية على جنوب المذهب واكثر شوفينية على شمال القومية, وعلى حساب مآساة المهجر اكتسب بحبوحة امن واستقرار مريحة تحت خيمة مرتكبي الجريمة, مجاميع سقطت الى قعر رذيلة خذلان الأهل .
على هامش جرائم الأجتثاث العرقي, مستثقف من قطيع (ش) الشوفينية, يتمدد بأرهاصاته القومية ليبتلع العراق طولاً, ويتوقف عرضاَ عند الجرف الشرقي من الفرات, تاركاً جرفه الغربي حدود توراتية مع الجار القادم, كم يبدو الشوفيني وضيعاً في اعماق دونيته, من يبلغ مثل هذا الخرف (الشيني) الذي يحلم بأبتلاع العراق, فبأي وحشية سيتعامل مع المكونات التي تشكل عراقتها وقدمها وارثها الحضاري مركب نقص لجمهورية الوهم.