18 ديسمبر، 2024 11:13 م

عراقيون مرّوا بموسكو(27) – د. وفيّة ابو قلام

عراقيون مرّوا بموسكو(27) – د. وفيّة ابو قلام

لا اعرف لحد الان كيف اكتب لقبها بشكل دقيق – (ابو قلام) أم (ابو اقلام) , ولكننا كنّا نلفظه ابو قلام في حينها , ولهذا كتبته هكذا في عنوان مقالتي عن المرحومة الدكتورة وفيّة . تعارفنا اثناء دراستنا في جامعة موسكو في ستينات القرن العشرين , حيث كنت انا آنذاك طالبا في الدراسات الاولية , وكانت هي طالبة في قسم الدراسات العليا . لقد وصلت وفيّة الى موسكو وهي محاطة بهالة من الشهرة و المجد باعتبارها شاعرة (محكمة الشعب) او (محكمة المهداوي) او (المحكمة العسكرية العليا الخاصة) , وكنّا نتصورها شخصية قوية وصلبة ومناضلة ووو , ولكننا اكتشفنا بعد مخالطتها لفترة طويلة نسبيا , انها امرأة عراقية بسيطة جدا وفي غاية الطيبة وحتى ساذجة الى حد ما , و بالتدريج لم تعد بالنسبة لنا تلك المرأة السياسية الحديدية التي تصورناها قبل وصولها الى موسكو.
كانت وفيّة تعرف حدودها كما يقال , وهذه صفة جيدة جدا في الانسان ( الذي يعرف قدر نفسه ) , فلم تكن (تثرثر!) في الشؤون السياسية ولم تكن (تتبجح !) بماضيها وقصائدها في المحكمة كما كان يتبجح الكثير من العراقيين , الذين كانوا معنا آنذاك , ولم تحاول ان تبرز في اجتماعات العراقيين ومناسباتهم ( وما أكثرها !) او تطلب القاء كلمة او قصيدة او تعليق بمناسبة او حتى بغير مناسبة كما كان يحاول البعض من المتبجحين , ولم تتكلم عن اطروحتها وتتباهى بعلمها وموهبتها مثل بعض الذين كانوا يحيطوننا , بل انها انجزت اطروحتها بصمت وهدوء وبمعزل عن الآخرين , وكانت اطروحتها عن الرصافي , وسمعتها تتكلم مرة واحدة فقط عن اطروحتها , وذلك عندما قدّمتها كاملة الى مشرفها العلمي , والذي قال لها , ان الاطروحة جيدة ومتكاملة عن الرصافي ( كانت وفيّة تعرف الرصافي وابداعه أفضل من مشرفها بلا شك لكونها عراقية وتحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بغداد ) , ولكن تلك الاطروحة كانت – من وجهة نظر المشرف العلمي السوفيتي – خالية من الاستشهادات الماركسية – اللينينية , وان الاطاريح في الاتحاد السوفيتي لا يمكن ان تكون هكذا , اي دون اطار نظري ماركسي واضح المعالم والمفاهيم , واتذكر جيدا كيف سخرت وفيّة من كلام المشرف آنذاك ( أمامنا طبعا وليس أمامه !), وقالت لنا, انها تبحث الان عن مقاطع عامة ( واستخدمت وفيّة بسخرية كلمة – آيات بدلا من كلمة مقاطع عامة ) حول الادب من أقوال ماركس وانجلز ولينين كي تضعها بين سطور اطروحتها عن الشاعر العراقي معروف الرصافي حتى تكتمل المتطلبات العلمية لمناقشة الاطروحة بنجاح امام اللجان العلمية , وهذا ما تم فعلا بعدئذ.
غادرت وفيّة الاتحاد السوفيتي بعد اكمال دراستها , ولم تحاول البقاء او التشبث بالبقاء كما فعل الكثيرون , متعللين بالاوضاع السياسية في العراق , ولم اتابع أخبارها – مع الاسف – , ولكنني سمعت انها عملت في جامعة باحدى الدول العربية باعتبارها تحمل شهادة الدكتوراه في الادب العربي , ولم أجد انعكاسا لنشاطها الادبي , الا اني وجدت مرة كتيبا صغيرا بترجمتها عن اللغة الروسية حول الواقعية الاشتراكية في الادب الروسي صادر في بغداد , وكان اسلوب الترجمة العربية سليما جدا , رغم ان موضوع الكتيب كان عتيقا ( ان صحّ التعبير) , ويحمل وجهة النظر السوفيتية التقليدية الرسمية المعروفة حول مفهوم الواقعية الاشتراكية , وهي وجهة نظر قديمة جدا ولم يعد حتى المتخصصون السوفييت آنذاك ( في السبعينات , عندما ظهر الكتيب المذكور ) يتكلمون عنه , او يأخذونه بنظر الاعتبار. ولا اعرف متى توفيت المرحومة وفيّة , الا اني قرأت كلمة ( المرحومة ) مقرونة باسمها اثناء مطالعاتي للصحف العراقية , وكذلك قرأت قبل فترة عن صدور مجموعة قصائد لها لم تستطع نشرها في ذلك العصر الصعب نهاية القرن العشرين , ولكنني لم اطلع على تلك المجموعة الشعرية مع الاسف . لقد كنّا نرى آنذاك , ان قصائدها لم تكن تتميّز بصور فنية و شعرية عميقة بشكل عام , وانها لم تكن ضمن الاسماء اللامعة للشاعرات العراقيات الكبيرات, وكان هناك أحد الزملاء المتشددين جدا بيننا ( لا اريد ان اذكره هنا , ولكني اشير فقط الى حرفي اسمه ولقبه – (م.ب.) وذلك لانه توفي منذ فترة طويلة في بغداد) يؤكد دائما انها ليست (شاعرة) وانما ( ناظمة ) ليس الا , وهو رأي غيرموضوعي بتاتا و يتميّز بالتطرف والقسوة .
الرحمة للشاعرة الدكتورة وفيّة ابو قلام , والذكر الطيب لهذه المرأة العراقية الاصيلة …