18 ديسمبر، 2024 11:58 م

عراضة على جسد حسين سرمك حسن

عراضة على جسد حسين سرمك حسن

روى لي صديقي حامد المالكي أن جده قبل أن يموت طلب من عشيرته جلب بيارغهم، وطلب منهم أن يخرجوه من غرفته الى خارجها وأن يهوسوا له بالبيارغ واطلاق النار، بعدها بعدة أيام مات رحمه الله، لكن اولاده واحفاده وجيرانه هوّسوا له واطلقوا باسمه الرصاصات فمات عزيزا قرير العين.
مرت ساعات على اغماضتك الاخيرة ياأبا علي، ونقول ان الموت حق، مادام ترابك قد خرج من حفرة طين… فسوف تعود اليها، كلانا يعلم ان التراب لايطير ياصديقي ، فلاترفرف بروحك فانك لن تبلغ مسافة ما أدركه ابن فرناس حين تحول الى كافتريا في شارع المطار، ونكاية بروحه ركنوا طائرة متقاعدة وحولوها الى مقهى حداثوية بجناحين عاطلين، لكنني أدري أنك لم تطلب عراضة سوى المحبة وقراءة سورة الفاتحة، ولم تطلب نشر بيرغ سوى نشر كتابك الاخير ربما، لم تكلف أحدا بأن يهوّس لك خشية ايقاظ جيرانك المرضى في مشفاك التركي، أو يطلق الرصاص خشية اتهام مطلقي الرصاص بالارهاب!!. لكن المحزن في موتك أن تغمض عينيك وأنت بعيد عن وطنك…وبقينا نحن نترقب خبر…. رحيلك…
وكالات الانباء تقول ان التقارير الطبية تؤكد هزيمتك امام فايروس كورونا، شخصيا لم اصدق ان فايروسا يمكن له أن يهزمك، كان يمكن أن تصاب بالسرطان، أو أي مرض يتشهى اللحم العراقي الطازج، لكن أن يقتلك فايروس يحمل ماركة سيارة اجرة موديل 1980 فتلك فجيعة…لكنني اقولها الان بملء الفم … بامكان كورونا أن يفخر الآن بعد موتك ان يقول انا الاقوى…وكيف لايقول ذلك… وقد هزم العراقي الذي حمل وطناً تحت جلده!!….
هل قتلك كورونا أم…حزنك على العراق؟
الضابط الذي يحمل رتبة عميد (يوم كانت رتبة العميد قليلة في الجيش العراقي)، المتخصص بعلم النفس والامراض العصبية، كان يذهب للدوام في مستشفى الرشيد العسكري بملابسه المدنية، يركب سيارات الكوستر وهو يحمل كيسه الكبير المملوء بمقالاته والمجلات والكتب التي لم تفارقه، الى الحد الذي دهسته احدى سيارات الأجرة (يمكن كرونه موديل 1980)، وتلك عادة لم يغيرها حتى رقوده في مستشفى تركي للعلاج من دهس فايروس لرئتيه اللتين تشبّعتا من هواء العراق.
حسين سرمك حسن تخصص بعلم نفس الابداع، وكان أول أديب عراقي وطبيب يخضع الرواية والقصة والقصيدة لمشرطه الدقيق، وكان حديثه الأحب إليه عن الموت والخلود، لهذا رأيناه ينبش كل ماتركته حضارة العراق في اساطير الخلق الاولى، كان يبكي مع جلجامش وهو يرثي انكيدو، كانت عيناه تغرقان بالدمع وهو يتحدث عن اجداده في “نفّر”، وكأنه وجد نفسه في عالمنا هذا وعاد إلى هناك ورجع يروي لنا مااخفته الرقم الطينية من أسرار لم تكشف الا تحت قاعدة( المظنون على غير أهله)، وسرمك كان من اهله.
هل استرحت أبا علي بموتك؟ كنت تكتب عن موتك باسم غيرك، انت الان بعيد عنا في ثلاجة موت تركي، لكني اتيقن اني اراك الان تبتسم في وجهي…هل تذكر ضحكتك في مبني مجلة الشبكة حين عرضت عليك مقالة ساخرة لي وانا متجهم الوجه وحزين…كانت عن شخص عراقي وجد مخطوطة عن اصله ونسبه وشجرة عائلته، المشكلة ان بعض اسطر المخطوطة كانت ممسوحة، فلجأ الى عود تنظيف الاذن ووجد علبة لصبغ الاحذية ماركة التمساح فملأ الاسطر بكتابته…اتذكر انك ضحكت بصورة لم اصدقها، دموع ضحكك بللت خدودك حتى اني اغلقت الباب بالمفتاح خشية دخول احدهم، وحين اكملت ضحكتك سألتك: هل من المعقول ان كتابتي تضحك الآخرين هكذا!!.
سأقترح عليك اليوم أن تضحك وأنت تدخل الى مملكة الموتى، يكفي أنك هربت بجلدك عمن كان يتربص بك، وبنا نحن الممتدون على ظهورنا مثل خط بين المتن والهامش، انت تدري بان هذا الخط رقيق مثل قلبك، وترف حد أن ينسحق لوضغطت عليه باصبعك، لكنه يبقى حدا فاصلا للاضاءة، اعلم انك لوقرأت هذه الجملة لقلت: هيه وينهه الاضاءة؟ (ابشرك الغاز الذي تشتغل عليه مولدات العراق لتوليد الكهرباء سيقللونه للنصف!! والدولار صعد للستّار ببورصة شارع الكفاح!!)…. حين تدخل الى مملكة الموتى، لاتنس ان تحمل كيسك الكبير، احمل بعض كتبك كي توزعها على الموتى من قرائك…احمل نسخة الى ناظم السعود خصيصا، اما الوصايا التي ستؤلفها فلن تُحاسب عليها،الميت يتسطيع تأليف الف مسرحية سيصدقها الموتى ولن يصدقهاها الملكان منكر ونكير او مبشر وبشير…. سيوقفك الاحدث موتاً عن عائلته واولاده، على يقين انهم سيعرفونك…في اليوم الأول اتخيل انهم سيعطون الميت فرصة للتعارف مع الموتى في عالم الارواح…حين تكمل نقل وصاياك، ابحث عن جلجامش واساله : هل عشبة الخلود هي نفسها باكة البربين التي تشبه خدود الحبيبات؟ وهل يستحق البربين كل هذه الديكتاتورية التي كان يعامل جلجامش بها شعب أور او حي أور او البنوك الى الحد الذي كان يغتصب بنات سومر يوم زواجهن قبل سبعة الاف سنة جنسية من اغتصاب القادة الضروريين لنا؟…اسال انكيدو : كيف وجدت عمتنا المومس الفاضلة شمخة؟ وهل طلبت منك أجر فضيلتها وأنت تجرجر بها على عشب سريرك في غابات الإرز ؟.. واسال عشتار وقل لها: بربوك… يعني الا تخيلين على جلجامش وتخلين ابوج “انليل” كبير الالهة يخلق انكيدو نكاية بجلجامش لأنه لم يمارس معك الفضيلة القديمة؟..
ابو علي تره احنه ابتلينه بآلهة وملوك قدامى كان الانحراف الجنسي شعارهم الكبير!!….ومازلنا.
د.حسين سرمك حسن، كان الأقرب الينا من كل المثقفين، كان أبويا وراعيا للابداع من دون ادعاء، كان خيمتنا التي نلوذ بها حين يعضنا انصاف المواهب،  كان يحتفي بنا وكأنه جمهور مثقف لوحده، كان ماكينة للقراءة، وكان ماكينة للكتابة، حسين سرمك كان يسبق موته، وكل كتاب هو صفعة بوجه الموت، كان يقول للموت: انا كتبت خلودي بنفسي…لهذا ابقى خلفه 90 مؤلفا.
دخلت مرة عليه في بيته، كانت الكهرباء مطفأة، كان تموز يغسلنا بالعرق المسيّح …وجدته وحده، وحوله تلال من الورق المكتوب بحبر الجاف…قال: هذه كلها كتبي المؤجلة للنشر، قرات له قصيدة، فذهب الى مكتبته وسحب جزءً من موسوعة “سلامة موسى” الفلسفية يحمل عنوان (فلسفة الحب) قال هذه تحية لقصيدتك، فقلت له انت خربت المجموعة وجعلتها ناقصة من هذا الجزء، فقال انا اعنيها، فاذا قلبتها اتذكر انها لديك وهي محبتي…
فمن يهديك جزءا من نفس أغلقه التراب عليك يا ابن سرمك؟
اعدَّ د.حسين سرمك استبيانا نفسيا لمن يعتقد انهم مبدعون، كنت اخر من قدم له الاستبيان، كان تسلسلي لديه هو 63 ، قال لي اقرا الاسئلة، لكن اريدك ان تجيب عليها واحدا بعد الآخر، محسودون هؤلاء ال 63 الذين صنفهم ذوق سرمك على انهم مبدعون، اجبت عن هذا الاستبيان بلغتي الساخرة والبذيئة في بعض الاسئلة، كانت هناك صورة تخطيطية لشاب يشبه الكابتن المرحوم احمد راضي، وخلفه تقف امراة عجوز تملأ وجهها الغضون، حين نظرت اليها،قمت بثني نصف وجه الشاب الايمن مع نصف وجه العجوز فظهرت لي صورة ثالثة لرجل عجوز…ذهبت لعيادته في بغداد الجديدة، قدمت الاستبيان له، وشرحت له وجود صورة ثالثة في التخطيط….اخذها مني ولم يتكلم معي.
بعد اسبوعين عرضت عليه توصيلة بسيارتي، حين صعد شتمني كثيرا بمحبة المعلّم…ابتسمت وقلت له: ابو علي ليش تشتمني؟ فقال: انا قدمت الاستبيان ل 63 مبدعا، لم توقفني اجابات الكل سوى اثنين: خالد مطلك وانت، والوحيد الذي رأى صورة ثالثة هو انت رغم ان الكتاب الذي نشر الصورة صدر في لندن في الاربعينيات ولم يكتب المؤلف ان هناك صورة ثالثة!!…
من سيوصلك الى بيتك الان ياحسين؟ مستعد أن أتلقي جبلا من الشتائم منك ياابا علي لكي اوصلك الى اهلك، لكنك اخترت ان تذهب الان الى امك وابيك ولاتعود…
د.حسين كان قطعة آثاث نفيسة في بيتنا العراقي، كيف لي أن اتصور عراقا من دون أن تكون فيه عيناك؟ معذور ان تتمنى الموت في وطن لاحياة فيه، معذور أن تخاف ممن كنت تدافع عنهم، ايها الغريب في هذا التيه العراقي، يحزنني انني لن ارى وجهك المصبوغ بالسمرة وروحك الترفة المغمّسة بالملح بعد الان، كيف يأكل التراب اصابعك التي حملت حقائب غربتك الأبدية…هكذا ومن دون أي مونتاج لحياتك، تقرر ان تكتب نهايتك على سرير تركي ابيض ايها الناقد الناقم على وجود لست طرفا فيه؟ ثلاثة اشهر وقلبي يأكلني عليك منذ ان ارسلت لي آخر كلمات (أخي الغالي أبو علي الوفي الطيب. تركت الموبايل تماما منذ وفاة أخي أحمد. متعوب وضجر من هذه الدنيا الفانية والوضع العام الحقير. اعذرني)..وعذرتك لانني لااملك سوى المعذرة فيك… أعلم أنك تحب الغميضة، فهل اخفيت روحك في مكان لايراه فيك أحد؟ أم اغمضت ابصارنا كي نبحث عنك ببصائرنا؟…كيف لي أن اصدق انك تذهب برجليك وتعود في تابوب خشبي بطائرة…اخشى على روحك من صوت الريح الذي يحرك الحقائب في الطابق الارضي للطائرة…اعلم انك لن تخاف من هذه الاصوات التي ترحّب بوجودك بينها، قبل موتك لم نسمع ان وطنا تم نقله بتابوت خشبي في طائرة سواك، سأقول انهم حجزوا الطائرة لك وحدك لأنك حسين في هيئة وطن، تمدد فيها بوسع روحك التي تم القبض عليها لايداعها في قبر تشرف عليه قبة علي “ع”، سنقول:
اللهم وانت الرحمن…ارحم هذا الوطن المحمول على اكتاف العراقيين، ارحم هذي الروح التي اتعبها الخوف على اهله، هذا المقبوض عليه من قبل شرطي سماواتك ليرجعه الى تراب اهله حتى لو كان قطعة لحم محزونة…هذا الساهر فجرك وهو يخاطب ارواح الماضين…
نم قليلا ياابا علي، فقد اتعبك السهر في ليل العراق الطويل…
امغيمة روحي
چنهه چادر يوم ثالث
حتى بالحيطان مبحوحة الصور
التوابيت امنگبة بلون البشر
الچفن مد روحه اعله ايدي
اوغيمت بالوحشة روحي
اشبيچ ياروحي يتيمه
موگلت لچ هذا ليل ومابعد صبحه فجر
اشبيچ تتلاوين وي ثوبچ يسرده المامش ابلايه حريمه
اشبيچ من تمشين وحدچ مااعرفچ
بيچ كل الناس غربة ابوسط هيمه
غيمة تتلاوح وسط روحي
امطري اسنين
يلكلچ حزن مابيچ ضحكة كيف
 امطري الشيب بللني
شيرجع لي سواد البارحه
ابيوتنه صارت مگابر
گمنه نقره اعليچ بس الفاتحه