22 ديسمبر، 2024 10:20 م

عذوبة الشعر في ” فرات الروح “

عذوبة الشعر في ” فرات الروح “

شاءت الصدف أن تجد طريقها الّيّ أراشيف عدد من الشعراء الراحلين وهم الشاعر كزار حنتوش ، علي الشباني ، صاحب الضويري ، حسن الشيخ كاظم ، فمنذ مطلع التسعينيات ومكتبتي تحتضن بكل محبة وأمانة كما هائلا من الوثائق والمخطوطات والرسائل التي هي ارث الشعراء المذكورين ، حيث بادرت الى تبويبها وتنسيقها وحفظها بطريقة تضمن سلامتها من التلف وتسهّل  الرجوع اليها عند الحاجة . وقد منحتني هذه الودائع شيء من المتعة والمعرفة والتعرف على ظروف كتابة القصائد ، فبين فترة واخرى أعود اليها وأستذكر اصحابها وكأنني أعيد حواراتي معهم وذلك من خلال خطوطهم التي تركوها  حتى على علب السكائر الفارغة وهو ماكان يلجأ اليها الشاعر كزار حنتوش حينما يأتيه وحي القصيدة ، فأرشيفه يضم عدد من القصائد كتبها على علب السكائر وعلى الاكياس الصفر وعلى ظهر دعايات المنتوجات الغذائية ، هكذا هو أرشيفه فوضى مثل حياته ، على العكس من أرشيف الشاعر علي الشباني الذي تميز بالتنظيم  والمتابعة الدقيقة لكل ماكان يكتب عنه وكذلك مخطوطاته ذات الخطوط الجميلة والمرتبة والخاليـــة من  (الشخابيط ) ، وقد ضم أرشيف الشباني مخطوطة كتاب ” فرات الروح ” الذي كان قد فاتحني بصدده في منتصف التسعينيات للعمل والتعاون معه في انجازموسوعة لأبرز شعراء الديوانية الشعبيين يتم اختيارهم وفق معيار التميز في التجربة الشعرية على ان يتم تكليف عدد من النقاد والباحثين للكتابة عن كل شاعريتم اختياره  مع نماذج من اشعاره .
اكتمل الجزء الأول من المشروع في حينه وقد ضم الكتابة عن أحد عشر شاعرا من مختلف الأجيال والمدارس والأشكال الشعرية ، قدم ّ الشاعر علي الشباني لسبعة منهم في حين تناول تقديم الباقين عدد من النقاد والباحثين ، وبسبب عدم تبني أية جهة دعم وطباعة هذا الجزء فقد توقف المشروع وظلت نواته ( الجزء الأول ) حبيسة الأدراج ضمن أرشيف الشاعر .
 استهل الشباني كتابه بتقديم الشاعر طاهر المصري مشيرا الى ( ثمة حيرة شاخصة في شعره بين شهامة وصدق الانسان العراقي ويوميات المدينة القاسية المتطلبات والمتناحرة القيم ) مستشهدا :
       ليش الزين أصبح ماله طاري الزبن      وليش العين أبد ماتنثني من العين
في حين كانت حصتي هو الكتابة عن الشاعر حسن الشيخ كاظم الذي اشرت الى انه ( أطل بصدق على واقع الناس البسطاء واقترب كثيرا من مفردات هذا الواقع مما سهلّ لأشعاره ان تجد طريقها بيسر الى القلوب ) وقد اخترت له قصيدة ” صورة ”  التي كتبها عام 1958 :
            سبحان رب الصـوّرك        سواك بأجمل صوره
            حاير شوصفك بالحسن      ورده ابوســط بــلوره
وتناول الشباني ايضا موال الصعلوك “قدوري” ( ياصاح كلبي تلوّع بالمجالي انشاط … ) الذي أشير له كثيرا وفي مواقع متعددة ، في حين قدّم الباحث حاكم الحداد رؤيته عن تجربة الشاعر سعدي المصور واصفا اياها بـ ( روح الحداثة وقوة القدامة ) :
         آنه اعله النفس من آخذ عهود            أكول اجلد ولازم اعوفك
         لجن كلبي رجيج ومن تجي اردود      عيوني تريد توكع من تشوفك
كما تناول القاص كريم الخفاجي تجربة الشاعر علي الشباني مشيرا الى انه ( لاينزوي من حوادث الأيام المبكية ، بل يندفع اليها حتى وان كان باكيا ويحسب ذلك انتصارا لمكابداته ) ويعزز ذلك باختياره قصيدة ( أيام الشمس ) :
             طشني ورك بالهوه  .. ييبس واطيرن حيل
           ولو ثكل بيّ المطر .. ع الباب اخضّر هيل
كما ضم الكتاب تجربة الشاعر كفاح عبدالحمزه الذي وصفه الشباني في تقديمه ( كلهم صمتوا ، لكنه لم يصمت .. له صوت فتى مشاكس يكتب الشعر توا ، وفحولة القول الصادق ) :
         والله لو تدري اشكثر كلبي ايهواك         جا كلت لبيك يامي ّ عيني
         وجا صحت ماآريد بالعالم سواك           يانديم الروح يانص ديني
والشاعركاظم خبط كانت عنده وقفه ايضا للباحث عادل العرداوي الذي قال في شاعريتــه  (المفردة الشعرية لدى كاظم خبط ، مفردة بكر .. نشطة حية غير مستهلكة وكان يمتاز بالضربة الشعرية المؤثرة ) :
         بيت الطين .. يلكل العراق ابين حيطانك شتل عمره
         بيت الطين .. ياغنوة العز .. وقلعة الفقره
         بيت الطين .. حك تنزار .. مو مرتين الك .. بالعام الف مره
والشاعر صاحب الضويري يجد حظه هو الاخر على صفحات الكتاب بتقديم الشاعر يحيى حلواص الفتلاوي ( اندلسي … في صحاري الديوانية ) :
         أنه حاير ابكيضي اشلون بشتاي         وتدري بالغطه يفلان عايز
         أنه روحي بصدرهه ناشف الماي        كلي اشلون بصرك بالبزايز
كما تناول الشباني تجربة الشاعر شعلان حاجم الذي قال فيها ( انهمك بشاعرية روحه الغنائية القلقة .. المتأججة ، فجاءت أشعاره تنوء بالألم والحب ) ؛
           وحشة عصر مخنوك صارت حياتي        مهموم افكر بيك حتى ابصلاتي
والشاعر ريحان السعدي هو الاخر يحظى بتقديم الشباني ( ماذا أقول عن شاعر لم يحدق عميقا في حروفه الجميلة . ولم يمتحن قدرته يوما بقوة ، ولم يحرق الليل من أجل قصيدة ):
          تمنينه نجيك انزورك اليوم            لجن صعبه علينه تعرف الناس
          ولو واصل الروحك .. آنه بالنوم      ونخيت الساده كلها لرفعة الراس
وتأتي الخاتمة بتقديم الشباني لتجربة الشاعر عباس الموسوى الذي وصفه ( نموذج شاخص للجيل الذي خرج من تحت رداء الحرب  الملتهب وهو ينوء بعذابات حروقها وتركاتها المرّة) : 
      ياليل الغريب اشكد توزع اهموم      والذكرى صداهه يفرهد اولايات
                 تنده كوم  .. كوم انصر عشك مهزوم
لقد كان ( فرات الروح ) خطوة شجاعة في مواجهة التصحر الثقافي الذي ساد المشهد التسعيني ، وبادرة طيبة ومخلصة للنهوض بالمشهد الشعري الديواني والشروع بتوثيق التجارب المضيئة في ظروف التسعينيات البالغة الصعوبة والثقيلة بأوجاعها الاقتصادية والسياسية والأمنية .