غزة تتصدر المشهد، ومر أكثر من شهرين من القصف العشوائي والاجتياح البري في غزة ولم تنجح إسرائيل في العثور على رهائنها مما يعني فشل الموساد والشاباك في معرفة مكانهم علاوة على أن طوفان الأقصى كان مفاجأة مما يشكك في قدرات الأجهزة الإسرائيلية التي طالما نظر إليها علي أنها نافذة في كل مكان ومجهزة بأبرع الجواسيس والتكنولوجيا، فكيف ستبدو إدارة القطاع بعد الحرب؟
ومع سقوط آلاف الشهداء في غزة، ستصبح الإجابة على هذا السؤال صعب للغاية خاصة مع الفصل الجغرافي بين القطاع والضفة ذلك الأمر الذي يفرض تحدياً للسلطة الفلسطينية لبسط إدارتها هناك، وكذلك لوجود أو دور إسرائيلي في إدارة القطاع الذي قد يشهد أجيالاً مستقبلية ناقمة علي إسرائيل وربما إنتقامية!
وتطورت المظاهرات المُدينة للعدوان على غزة لتزيد الشعارات المعادية للسامية حول العالم بنسبة تقارب ما كانت عليه قبيل الحرب العالمية الثانية مما يعني خروج جيل جديد لا يرى إسرائيل دولة بُنيت لحماية اليهود المشتتين فحسب، بل دولة احتلال تقوم بالتطهير العرقي بتغطية إعلامية غربية خاصة في الولايات المتحدة المنهكة من دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا التي أرجح فوزها في هذه الحرب من أول يوم نظراً لما تمتلكه من إمكانيات عسكرية هائلة وحلفاء لا يستهان بهم خارج الكتلة الغربية. ومع تصريحات الإعلام الأمريكي بإقتراب نضوب سيل المال المُضخ لتسليح اوكرانيا خاصةً بعد فشل الهجوم المضاد، أعتقد أن نصر روسيا بات يلوح بالأفق، والتي بدت “عدو الجميع” في العالم الغربي مع انقلاب أغلب دوله ضدها، عدا قلة قليلة!
وأمام معبر رفح يوم 29 أكتوبر، وقف كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مدلياً بتصريحات لحتمية التحقيق وجمع الأدلة من مستشفى المعمداني والقطاع وتقديم مرتكبي جرائم الحرب للعدالة الدولية، وهي الواقعة الأولى بتاريخ القضية الفلسطينية ورغم امتناع تل ابيب عن التوقيع على ميثاق روما المنشئ للمحكمة، إلا أن انضمام السلطة الفلسطينية للمحكمة عام 2015 وقرار المحكمة عام 2021 بشمول كل الأراضي المحتلة بإختصاصها يعتبر ضعفة قوية على وجه تل أبيب وفق ما قاله ساستها أنفسهم حينها، ويعطي الصلاحية القانونية للمحكمة للتحقيق بقطاع غزة الذي قد يتحول أبنائه لجيل انتقامي مستقبلاً.
ورغم محاولة واشنطن اتهام إيران بتورطها في هجوم 7 أكتوبر فيما سُمي بطوفان الأقصى، إلا أن الخارجية الإيرانية نفت، ويعتبر التقارب الإيراني العربي أكبر مخاوف إسرائيل نظراً لما تمثله من خطورة شديدة على خريطة التحالفات أو بالأحرى الأصدقاء والأعداء وتوزان القوة بالمنطقة كما رسمتها وهندستها واشنطن لعقود والتي تضع “إيران” في قائمة الأعداء أو بالأحرى عدو الجميع اليوم بالشرق الأوسط مما دفع بعض دول الخليج للتطبيع مع إسرائيل أملاً في مشاركتهم الجهد الدفاعي ضد طهران، وإذا تم تصعيد هذا التقارب إلى صلح عربي إيراني أو بالأحرى سني شيعي، ستتوفر بيئة أثمر لتسوية صراعات عدة بالمنطقة مثل تلك المشتعلة في سوريا واليمن والتي مثلت تهديداً مباشراً للأراضي السعودية التي شهدت هجمات حوثية بالطائرات المسيرة في العمق السعودي، ومن ثم قد تقف إسرائيل حينها أمام تكتل هائل، وقد تتبدل الكراسي مع إيران لتصبح “عدو الجميع غداً”.
وبمفترق الطرق بذلت الصين جهوداً للوساطة وإذابة الجليد بين إيران والسعودية تكللت بزيارة وزير خارجية السعودية لطهران في يونيو 2023 بعد قطيعة دبلوماسية طويلة وتلاها تصريحات مصرية تسير في ذات الاتجاه من رفع مستوى العلاقات مع طهران والسماح للسياحة الإيرانية بالقدوم لمصر، لكن على الدول العربية توخي الحذر من التقارب مع إيران والتي تحمل بيدها طموحاً طائفياً وخيوط اللعبة السياسية والعسكرية بمناطق عدة!
ورغم طلب السعودية وقف إطلاق النار في غزة والتي لوحت لمساومة الغرب على برنامج تسليح نووي لردع طهران نووياً، إلا أن تعنت إسرائيل وتجاهل طلب السعودية حول أمل تل أبيب في توقيع إتفاقية السلام إلى مكسب صعب المنال أو يبدو أنه ذهب مع الريح، وهو بلا شك سيكون أحد أكبر الخسائر الاستراتيجية لإسرائيل التي قد تغدو عدو الجميع غداً.
والمثير للاهتمام، تصريحات الصين المتزايدة حول الأزمة في غزة رغم تمسكها بمواقف هامشية تجاه قضايا الشرق الأوسط والاكتفاء بمشاريع اقتصادية متوسعة، وقد تدل تلك التصريحات على بداية إدراك صناع القرار الصينيين للمكانة التي وصلت لها بلدهم كقوة عظمي تناطح أمريكا، وعليها مسئولية للتدخل في أحد أعقد مشاكل الأمن الدولي.
لذا صعود الصين كقوة عظمي قد يفرض صعوبة لإسرائيل الحليف الاقليمي الموثوق لأمريكا التي تعد بدورها منافساً للصين، وقد يخلق مساحة حقيقية لتحرك العرب لتحقيق مكاسب إقليمية استراتيجية إذا فطنت القيادات العربية فرص الاستثمار في الخلاف الصيني الأمريكي، علي غرار الحرب الباردة مع السوفييت التي كانت مثمرة للعديد من الحكومات العربية حينما وفرت مساحة حركة كبيرة في التجارة والتسليح بين واشنطن وموسكو علي سبيل المثال لا الحصر، فهل ترث الصين لقب عدو الجميع من الإتحاد السوفيتي الذي عاداه الغرب وحاولوا احتوائه وسجنه خلف الستار الحديدي بشرق ووسط أوروبا، وهي سياسات أشبه بما يحدث اليوم مع بكين من تصريحات تدفع نحو ذات السيناريو من حتمية العداء والمواجهة بين بكين وواشنطن وحلفائها من خلفها.
والمجتمع الدولي برمته يتذكر أن ميلاد إسرائيل كان رهن تسويات ومخلفات حرب عالمية ثانية فرضت خرائط وحدود ليومنا هذا رغم حدوث تعديلات بالحرب الباردة بين دول اتحدت مثل ألمانيا وفيتنام وأخرى انشطرت مثل الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا، والجدير بالذكر أن حدود الدول ديناميكية وليست ثابتة بل هي وليدة الظروف السياسية والأمنية للدولة ومحيطها الإقليمي وتتفاعل معها لتصبح قابله للتمدد والإنكماش في أي وقت، وحينما تمتلك القوة لا تتردد في استخدامها لتوسيع حدودها وحينما يتملكها الوهن قد تخسر أراضيها، ولم تبقي أمة على حدودها أكثر من قرن، وتظل استمرارية إسرائيل رهن نظام دولي متغير تسيطر عليه قوى ترى جدوى وجودها!
فهل تصاب إسرائيل بلعنة العقد الثامن التي لاحقت سابقتها، أم تتدارك أهمية وجود دولة فلسطينية ومدى توقف أمنها على وجود الأخيرة، ومَن يصبح عدو الجميع غداً؟