في مدينة الحلة، حيث تتنفس الحروف من جذور الحضارة، ويُصاغ التاريخ من عبير الفرات، وُلد عدنان سماكة عام 1934، في محلة الوردية، من أسرة دينية كان عبق مجالسها منهلًا أول لغيث وعيه. لم تكن خطواته التعليمية سوى امتداد طبيعي لطفولته النهمة للمعرفة، فتدرج في دروب الدراسة بين الفيحاء وثانوية الحلة، ثم ارتقى إلى دار المعلمين، ومنها إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية، حيث تخرج من قسم اللغة العربية في دفعتها الأولى، وكأن اللغة ذاتها انتخبته رسولًا لها في أرض العراق.
قارب النصف قرن قضاه معلّمًا ومربيًا، ثم باحثًا وأديبًا، ومن خلال مكتبات المدارس التي تولى شؤونها، لم يكن مجرد قيّم على الكتب، بل حارسًا أمينًا لذاكرة أجيال، يغذيها من معين ثقافته الواسعة، ويوقظ فيها جذوة التساؤل والتأمل.
امتاز عدنان سماكة برؤية شمولية قلّ نظيرها؛ فهو باحث في التاريخ، وكاتب في اللغة، وأديب يُساجل الحرف بحب، وإذاعي يخاطب الأذن بصفاء العالم العارف. كتب في كل شيء، من النص القرآني إلى الجغرافيا، من المناسبات التاريخية إلى قضايا اللغة، حتى جاوزت مقالاته الألف، فكان كمن ينحت الوعي في زمنٍ كثُر فيه الصخب وقلّ فيه الصدق.
وقد جمع في مؤلفاته شتات معارفه وسنين بحثه الطويلة، فكان كتابه “حصاد السنين” شهادة وفاء لرحلة فكرية مخلصة، بينما جاء كتابه عن قبيلة ربيعة تأصيلًا لهوية اجتماعية وثقافية مغفلة، أما “شذرات من القرآن الكريم”، فقد حمل رؤيته المتأنية في التأمل والتدبر، رؤية الباحث لا المتكلف، العارف لا المدّعي.
ورغم تقدم العمر، لم ينثنِ عن سعيه في تحصيل العلم، بل واصل طريقه نحو الدكتوراه في معهد التاريخ والتراث العربي، لكن المنية اختطفته قبل أن يبلغ أمنيته الكبرى، فرحل في 21 كانون الثاني 2016، ودفن في النجف الأشرف، غير أن اسمه بقي حيًا في ذاكرة الحلة، يُتلى كلما ذُكر الأدب والبحث والإخلاص للثقافة.
يصفه النقاد بأنه “ذاكرة الحلة المتحركة”، رجل جمع بين التواضع والمعرفة، بين الجهد والمثابرة، وكان من القلة الذين يكتبون ليضيئوا لا ليتباهوا، يُشيدون بثقافته الموسوعية، ويؤكدون على نقاء نبرته في كل سطر كتبه. قال عنه أحدهم في تأبينه: “لم يكن عدنان سماكة باحثًا في الكتب فقط، بل باحثًا في الحياة، وكان يكتب كأنما يخاف على الكلمة أن تُظلم، فينصفها بقلمه“.
في حفل تأبينه الذي أقامته جمعية الرواد في 23 كانون الثاني 2017، استحضر الأصدقاء والتلاميذ سيرته، بعضهم بشعر يفيض وفاءً، وبعضهم بكلمات يغمرها الحنين، غير أن الأبلغ كان حضور روحه في قلوبهم، فعدنان لم يكن مجرد باحث، بل روح مدينة، وسادن تراثها، وصوت من أصواتها الحية.
لقد عاش عدنان سماكة حياة ملؤها العطاء، ومضى تاركًا أثرًا لا يُمحى، كأنّ الحلة حين ودّعته لم تودّع رجلًا، بل ودعت فصلًا كاملًا من فصول ثقافتها النبيلة.