ديفيد شينكر/ معهد واشنطن
ترجمة عباس منعثر
اعتماداً على جهود حثيثة تقوم بها طهران للتلاعب بنتائج انتخابات 2021 غير المرغوب بها، فلا يمكن السماح (من قبل ايران) لديمقراطية حديثة في بغداد ان تصل الى نتائجها النهائية. فقبل أسابيع، ذكر الرئيس الأمريكي بايدن متفاخراً في منشور على الواشنطن بوست أن الشرق الأوسط اصبح اكثر استقراراً وأماناً عن فترة سلفه ترامب. ذكر بايدن العراق من بين الأمثلة، منبهاً الى ان الهجمات الصاروخية قد تقلّصت ضد االبعثات الدبلوماسية والقوات الامريكية. وعلى الرغم من أنه دقيق فيما يخص تضاؤل عدد الاستهادافات للامريكيين، لكن ذلك لا يعتبر مقياساً كافياً ليدعم ادّعاءه بالاستقرار. في كلّ الأحوال، فإن العراق الآن أقل استقراراً من الوضع في كانون الثاني 2021 والقوات الامريكية تتعرض لتهديدات أكثر.
قبل 10 أشهر، حدث تحوّل بارز، فقد بدا العراق قابلاً لاستقبال حكومة ملتزمةٍ بتقليص الوجود المدمر للمليشيات المدعومة من ايران وفرض السيادة العراقية بالضد من جارتها الأكبر. في الوقت الحالي، حلفاء ايران مسيطرون، والديمقراطية الهشة مهددة بالانهيار، والعنف أمر محتمل بين الجماعات الشيعية للمرة الأولى.
وما كان للامر أن يكون كذلك. فالرابح الأكبر في الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول هو مقتدى الصدر، رجل الدين الشعبوي صاحب شعار لا شرقية ولا غربية، من اجل عراق لا تهيمن عليه واشنطن ولا طهران. وقد حصل تحالفه (يقصد انقاذ وطن) على 329 وهي أكثرية في مجلس النواب، منتصراً على الجهات الشيعية المدعومة من ايران، أي الذراع السياسي للمليشيات المتخفية تحت مسمى الحشد الشعبي.
غنيّ عن البيان أن الصدر ليس هو الترياق. فبعد 2003، كان جيش المهدي عدواً رئيسياً للغزو الأمريكي، وكاد رجل الدين أن يُقتل على يد الامريكان. في الآونة الأخيرة، صدّر الصدر نفسه كقومي، وناشط متحمس ضد الفساد، ومنتقد للنشاط خارج اطار الدولة للحشد الشعبي والذي يستهدف البعثات الدبلوماسية والوجود العسكري الأمريكي.
ان الوجهة التي سيتجهها رجل الدين المتقلّب غير مؤكدة في حال حصوله على السلطة، كأن يختار نظاماً دينياً شبيها بالنظام الإيراني، حيث ينصّب فيه نفسه كقائد أعلى في السلطة. لكن، بعد الانتخابات، ابدى الصدر استعداداً كبيراً لتأسيس ائتلاف شيعي، سني، كردي مع استبعاد الأحزاب المدعومة ايرانياً. ربما كان هذا الائتلاف قادراً على استعادة سيادة العراق على أرضه ومحاربة الفساد، وهي نفس الأهداف الرئيسية نفسها الخاصة بإحتجاجات 2019 على مستوى البلاد.
لكن ذلك الحلم لم يتحقق. عرقل حلفاء ايران تشكيل الحكومة: فقد ورد ان الحشد الشعبي ممثلاً بعصائب اهل الحق وكتائب سيد الشهداء وكتائب حزب الله قامت بتهديد الحكومة، وحاولت اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وأطلقت عدداً من الصواريخ والطائرات المسيرة على حلفاء الصدر من الكرد، بالإضافة الى قصف منزل رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي. لاجدال أن الصدر وشركائه الكرد لم يحققوا هدفهم كما خططوا، الا أنهم كانوا يحرزون تقدماً بطيئاً على الاقل.
ثمّ، لعب الاطار التنسيقي المدعوم إيرانياً ورقته الرابحة. لكي يمنعوا الكرد والسنة الذي حصلوا على الأغلبية من اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، حفزّت المعارضة المدعومة ايرانياً هيمنتها على القضاء الفاسد لتحريك المرمى منعاً لتحقيق الهدف. فقد أصدرت المحكمة الفدرالية العليا وفي سابقة غريبة بأنه ولأول مرة يجب أن يكون هناك أغلبية الثلثين وليس الأغلبية البسيطة كما هو معمول به سابقا لانتخاب رئيس الجمهورية. وبسبب انه لم يستطع الوصول الى العتبة (أي اغلبية الثلثين)، استقال جماعياً نواب الصدر( 73 نائباً) في يونيو، وتم توزيع مقاعدهم على الأحزاب المتحالفة مع ايران.
من دبّر هذا الانقلاب القضائي؟ انه نوري المالكي (رئيس الوزراء من 2006 إلى 2014 )، والمعروف بفساده الهائل وطائفيته الخبيثة والتي ساهمت إلى حد كبير في دخول داعش. لقد وردَ في أحد التقارير، أنه في يناير من عام 2021 قد نجا بصعوبة من العقوبة الاقتصادية من قبل إدارة ترامب. وكصانعٍ للملوك، عاد المالكي ليتحكم بالامور مرة أخرى.
ومنذ العام 2008، كان الصدر والمالكي يتنافسان على قيادة الشيعة، حيث أقدمت القوات الحكومية بقيادة المالكي على مهاجمة جيش المهدي التابع للصدر وهزمته في معركة البصرة (المعروفة بصولة الفرسان). وبسبب هذه العلاقة المتوترة بين الطرفين، كان ردّ الصدر على ترشيح الإطار التنسيقي لحليف المالكي محمد شياع السوداني في 25 تموز لمنصب رئيس الوزراء عبر توجيه أتباعه أن يحتلوا البرلمان ويمنعوا التصويت على رئيس الوزراء، وقد تم بالفعل، وهو شبيه جداً بحركة متمردي 6 يناير 2021 في واشنطن الذين اجتاحوا الكونغرس الامريكي.
حالياً، أخلى الصدريون البرلمان، لكن خيامهم على الأبواب وفي المنطقة الدولية (أي الخضراء) على الجانب الاخر من البرلمان، كي يعرقل انتخاب السوداني. في هذه الاثناء، ظل الصدر يطالب بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة بموجب قانون انتخابات معدّل، وهي المطالب التي عارضها الاطار التنسيقي المدعوم إيرانياً. ومع استمرار الأزمة، فإن التوترات تتصاعد. ومهما تكن المواجهة بين الطرفين، فمن المظنون أن ايران ستظهر بقوة في بغداد، وهذا يحبط إرادة الناخبين العراقيين الذين صوّتوا بأغلبية ساحقة لصالح التغيير في تشرين الأول الماضي.
ليس بإمكان واشنطن منع هذه النتيجة. ففي كل الأحوال، لم تبذل الإدارة الامريكية، كما يبدو، أي جهد مؤثر لتغيير او إيقاف هذا السيناريو. من المعلوم أن سجلات السفارة تظهر ان كبار مسؤولي وزارة الخارجية الامريكية ومجلس الامن القومي قد زار العراق لمرتين فقط خلال الأشهر التسعة تقريباً بين اجراء الانتخابات وانسحاب التيار الصدري، ولم يُنجز أنطوني بلينكين (وزير الخارجية) سوى بضعة مكالمات مع صناع القرار العراقيين في محاولة للتأثير على التطورات الجارية. ولا يخفى دور سفيرة امريكا الجديدة ألينا رومانوفسكي في متابعة هذه القضية بعد وصولها إلى بغداد، لكنها فعلت ذلك دون دعمٍ كافٍ من واشنطن على الاغلب. إن العزوف الأمريكي عن أي مشاركة في تشكيل الحكومة من قبل أعضاء الإدارة رفيعي المستوى لم يكن سهواً بل قراراً واعياً وهادفاً، وكما صرح مسئول امريكي بارز: (نترك الامر للعراقيين في معالجة شأنهم).
في حالة حصول انتخابات في الدول الأجنبية، فإن واشنطن لا تدرس في الاغلب نتائج تلك الانتخابات. بدلاً من ذلك، تفضل التركيز على دعم المؤسسات. ومما يؤسف له أن العراق لم يكن حالة نموذجية، لأن ديمقراطيته الحديثة كانت تصارع من أجل أن تتخلص من سيطرة إيران على العراق، بضغط ميليشيا الحشد الشعبي البالغة (100000 عنصراً ميليشياوياً). لقد كان ممكناً أن تساهم الانتخابات في العراق أخيراً في إضعاف قبضة إيران الخانقة، لكنّ عدم الانهمام الأمريكي أثناء عملية تشكيل الحكومة ترك فراغاً ملأته طهران بلهفة.
أثناء ذلك، قام قاآني ومسؤولون إيرانيون مهمون بزيارة العراق ما لا يقل عن 10 مرات في الأشهر الأخيرة لتهديد وارغام وأقناع الشركاء المحليين وخصومهم بالطريقة التي يجب أن تُنظّم فيها الحكومة المقبلة. وفي حين لا يمكن الارتكان الى عدد الزيارات في اكتشاف أهمية الموضوع، فإن التباين يشير إلى أن أسلوب واشنطن يميل الى عدم التدخل. إذ أن الادراة الامريكية لم تستخدم النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي لواشنطن لحماية العملية السياسية التي تتعرض لهجوم خطر من طهران.
هذا الامر مهم لأن العراق مهم للولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. إذ لم يُقتل آلاف الامريكيين ويعوّقوا من اجل المساعدة في بناء عراق ما بعد صدام حسين فحسب، بل، بالاختلاف عن أفغانستان، يُعدّ العراق شريكاً حقيقياً في مكافحة الإرهاب ويتمتع بفرصة حقيقية لينعم بديمقراطية كاملة. ان موقع العراق جيوستراتيجي وحيوي ولديه خامس إحتياطي نفطي في العالم، وهو في خط الصدّ الأول لمواجهة جهود إيران في التوسع باتجاه جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ومع الاقتراب من ابرام الاتفاق النووي مع طهران، فإن التصدي لتدخل ايران في بغداد أصبح ملّحاً أكثر سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو لشركائها الإقليميين. وبعد أن أدلى العراقيون بأصواتهم بشجاعة للأحزاب المناهضة للهيمنة الإيرانية، سمحت إدارة بايدن عبر نهج عدم التدخل في عملية تشكيل الحكومة للملالي بسرقة النصر من فمِ الهزيمة. ولسبب غير مفهوم، يبدو أن العراق – حينما كانت الولايات المتحدة تخوض حربين رئيسيتين في السنين الأخيرة – لم يعد أولوية بالنسبة لواشنطن، ولسوء الحظ، فإنه أولوية بالنسبة لطهران.