عدلة جورج شداد خشيبون شاعرة وقاصة وناثرة ناعمة ، رقيقة ، حالمة ، غنية الشعور والاحساس ، صادقة البوح واللوعة ، مخملية الكلمة وسحرها ، حريرية الجرس ، هفهافة الوزن ، موسيقية الالفاظ والالحان كأن قلبها ينتفض حياة وراء التعابير ، واي انتفاضة ! انتقاضة الروح والوجدان الصافي .
نهضت عدلة شداد من البقيعة الساحرة بجمالها وطبيعتها وموقعها الخلاب الذي يطل على جبال الجليل وبلاد الارز والغناء ، لبنان الذي رجع يتعمر على قول وديع الصافي ..هذة القرية الوادعة النابضة بالحياة والشعر انجبت الكثير من عشاق الحرف والكلمة والقلم والريشة ، فمن رحمها وحضنها خرج سالم جبران وسليمان جبران ونايف سليم ومنيب مخول ومنعم حداد وسميح صباغ وسلمى صباغ وحسين مهنا ومفيد مهنا وسامي مهنا وكميل حداد وسواهم .
عدلة شداد خشيبون التي تقطن في كفر كنا ، قانا الجليل ، بعد زواجها ، تكتب باحساسها الحارق العفوي الصادق الخواطر الوجدانية والهمسات الدافئة ونبضات القلب ، ونشرت الكثير من هذه النصوص النثرية الاقرب الى لغة الشعر في صحيفة ” الاتحاد ” العريقة ، وجمعتها في كتابها ” نبضات ضمير ” الصادر عن دار الوسط للاعلام والنشر في رام الله .
عرفت عدلة جورج شداد في اواخر السبعينات من القرن الماضي ، اي قبل الاربعين عاماً ، من خلال ما كانت تنشره من كتابات في مجلة ” مجلتي ” الطلابية التي كانت تصدر عن دار النشر العربي ، واحتضنت المواهب الشبابية الصاعدة النامية والناشئة ، ويومئذ نشرت عدلة قصتها ” حنان وحرمان ” وكانت طالبة في الصف العاشر بمدرسة البقيعة الثانوية “ب” ، وسئلت انذاك من هيئة تحرير المجلة عن علاقاتها بمدرستها ورأيها الشخصي في هذه العلاقة ، فأجابت قائلة : ” دخلت المدرسة عندما كنت في الخامسة من عمري ، دخلتها ولم اكن اعرف للحرف شكل ، ولا لفظ ، دخلتها فصورت لي الحرف شكله ، وعلمتني طريقة لفظه ، ومرت الأيام ، وما هجرتها ، وتحولت الأيام الى شهور وسنوات وشعوري نحو مدرستي هو انها دار لنا ، المدرسون آباء واخوة ، ونموت وكبرت ، وازداد الرباط بمدرستي متانة ، بت اهواها ، احزن اذا غبت عنها يوماً اشعر بأن يوماً ثميناً من عمري ضاع دون جدوى ، وبغمضة عين وجدت نفسي في الصف التاسع ، وكم حزنت حينها لمجرد فكرت مدرستي الى اخرى ، وابتعد عني آبائي الذين علموني وانتقل الى آخرين لا اعرفهم ولا يعرفوني ، وكم كانت فرحتي عندما سمعت بزرع بذور مدرسة ثانوية كاملة في قريتي “.
وكانت عدلة انذاك تحلم وتتمنى ان تدخل كلية الحقوق وتتخرج محامية لتدافع عن المظلومين بين الحق والعدل لاصحابها ، او ان تدرس الشؤون الاجتماعية وتصبح معلمة للمكفوفين لتعليمهم ومنحهم المساعدة وتجزل لهم العطاء ، وتسبغ عليهم الحب ، وتزرع في قلوبهم الثقة وحب الحباة التي حرموا من نورها ، ولكنها في نهاية المطاف التحقت بجامعة حيفا وسكنت في عسفيا واصبحت معلمة للغة العربية التي تعشقها حتى النخاع .
راقت لي كتابة عدلة شداد في حينه واستهوتني بما فيها من رشاقة في المبنى وسلامة في المعنى وبراعة في الوصف والتصوير ، وامانة لروح لغة الضاد وتفهم لعبقريتها ومقدرتها على اقتناص الخفي من ظلالها ، والساطع من انوارها ، وتوزيعه توزيعاً لا يستطيعه الا ابن الفن والابداع الصحيح والفطرة السليمة ، وراهنت على موهبتها الحقة ومستقبلها الأدبي .
وتمضي الايام وتكبر عدلة شداد وتصبح نجمة أدبية ساطعة ومبدعة ذات خيال خصب ، وجمال تعبيري ينطلق من قراءات تراثية وثقافة واسعة متعمقة ، واسم وضع خطاه الثابتة الراسخة في المشهد الأدبي الثقافي الابداعي في هذه البلاد ، ووجدت لها مكاناً في روضة النثر الشعري الصافي ، بصمت وهدوء وبدون تسويق ونفخ اعلامي وبكل تواضع واتزان، محلقة ومتألقة بحروفها وخواطرها وكتاباتها الوجدانية الحسية الوصفية الجمالية وايحاءاتها المصاحبة للصور الفنية .
ولعل اكثر ما يجذبنا ويشدنا في كتابة عدلة شداد خشيبون الاسلوب التعبيري الرومانسي ، معنى وشكلاً ومضموناً ، والأناقة الوصفية التصويرية، ووضوح اللحن والنغم الشجي وقوة الايقاع الموسيقي ، والتعابير والالفاظ الثرية السخية ذات النكهة النثرية الشعرية التي تمس وتلامس شغاف القلب لرقتها وبهائها وعذوبتها وصفائها وتوهجها العاطفي ودفقها الاحساسي .
لقد لقي كتابها ” نبضات ضمير ” اصداء واسعة بين الاوساط الأدبية والثقافية والنقدية التي سارعت الى تكريم عدلة والاشادة بها ككاتبة مختلفة بلغتها الجزلة المتينة المدهشة ، واسلوبها التعبيري الخاص وقدرتها الفائقة على البوح والتعبير .
” نبضات ضمير ” خواطر أدبية مكتوبة بنثر شعري ، ولوحات فنية ابداعية جمالية نثرية تعانق الشعر ، انها خواطر قلب وروح وضمير حي ونقي ، خواطر وجدانية انسانية صادقة وصافية كالماء الزلال ، نابعة وصادرة من عمق القلب ، مفعمة بالاحاسيس ، ومترعة بالدفء الحميمي ، المعبر عما يختلج في قلبها وما يجيش في صدرها من مشاعر وعواطف انسانية متفاوتة ، وتنجح في استدراجنا وشدنا للتغلغل الى أعماق روحها وقلبها ووجدانها .
وما يسم هذه الخواطر والنصوص النثرية الشعرية هي المشاعر المؤثرة ، والعواطف الجياشة ، والايحاءات العميقة ، والتكثيف والايجاز والاستعارات والكنايات والتشابيه والسجع والطباق وغيرها من المحسنات اللفظية ، فضلاً عن الموسيقى اللفظية والرموز المتتابعة .
ومن نبضات عدلة شداد بطاقة وفاء لأمها تحت التراب وفي السماء مع الخالدين ، وتعبر فيها عن مدى شوقها وحنينها لأمها الغالية التي افتقدتها ولطالما احتضنتها ومنحتها الدفء والعطف والحنان ، فتتساءل بكل حرقة وأسى قائلة :
اماه يا مصدر الحب والوفاء ، يا اريجاً فاح في بيداء الحياة ، يا طعماً حلواً ، يا اعذب هواء ، كم احن لضمتك .
وتكتب ايضاً لأختها التي فقدتها ذات كانون ، ونحس في هذا التص بصدمة الفاجعة وصعوبة الفراق ، بالحزن والشجن والبكاء لفراق الأحبة :
اليوم أرى القلم يكتبني بكلام رثاء ، كلامي عنك دوماً يصاحبه البكاء ، فصرت بعد موتك اختاً للخنساء ، فصخر الذي رثته الخنساء ، ليس اعطم منك شأناً يا أختاه .
الأداء الشعري لدى عدلة شداد خشيبون ناجم عن تجانس الالفاظ وتناغمها وتوافق ايقاعاتها الداخلية ، فجاءت نصوصها محملة بشحنات انفعالية من القلب ، صادقة ومتوترة ودافئة انسابت في تدفق ونعومة وعذوبة ورقة اضفت على لوحاتها النثرية مناخاً رومانسياً حالماً .
” نبضات ضمير ” بوح ذاتي على شكل خواطر أدبية ، دامعة وحزينة حيناً ، باكية ونازفة حيناً آخر ، فيها صدق عاطفي جياش وحرارة التجربة ومرارتها على الصعيد الشخصي ، والتحاماً عضوياً وجدلياً بين الشكل والمضمون في جدلية لغوية وفنية وهندسة ايقاعية تقترب من لغة الشعر في صور استعارية ذات معان وابعاد عميقة ، واللجوء الى الرمز والابهام في بعض النصوص والخواطر ما يضطر القارىء الى اعادة القراءة مرة اخرى ليفهم ويدرك الغاية والمغزى الذي ترمي اليه الكاتبة عدلة شداد .
يقرل الأديب السامق يوسف ناصر في مقدمة الكتاب : ” تكتب عدلة من قلب يخفق بالمحبة الحارة ، والأمل الزاهر ، وحنان الأم الساخن ، وفي عروق قلمها ينساب نسغ السلام ، والحب والأخوة ، والرحمة والحنين الى المثل السامية ، ولا ننسى انها الابنة ، والأخت ، والزوج ، والأم ، وهذه كلها روافد تزخر بكثير من المشاعر النبيلة والعواطف الصافية التي يمكن ان تتأتى يوماً الى أقلام النساء ..
ويضيف قائلاً : ” في سطورها ثورة المرأة على سلطة الفكر الجليدي الذي يحكم عقول أبناء المجتمع وتمردها على مملكة العادات التي يتوارثها الناس جيلاً بعد جيل ، وليس في ذلك من يجرؤ على هز عروشها ، وهدم قلاعها الراسخة منذ القدم ، في النفوس والعقول بين أبناء البشر ، قلم الكاتبة عدلة يخط مشاعرها وأفكارها بصدق ، وعلى السليقة ، فلا هي تنتحل احساسات ليست لها ، ولا يلفقها ، بل ان ما تكتبه هو نتيجة لتجربة بعد اخرى امضتها فعلاً ، وتترك روحها تضطرم لها اضطراماً “.
تتميز عدلة شداد خشيبون بالعمق واتساع الأفق ، وبساطة التعبير غير المفتعل ، فجاءت نصوصها غنية بهذه الملامح ، اضافة الى جمال العاطفة والشعور الانساني الواسع ، والوطنية المتدفقة ، وأشاعت في كل هذه الألوان الموسيقى والغنائية الحلوة الشذية .
ولعل أكثر ما نلمسه في نص عدلة التأثير الاستيحائي الاستحواذي والرمز الشفاف .
انها لغلة وفيرة الحصاد ومبارك تلك التي انطوت عليها دفتا كتابك ايتها المتألقة المتربعة على صدر الابداع النثري السليم السلس . اما الساعات التي قضيتيها بهذه الغلة منذ ان كانت اشواقاً ورؤى تدغدغ روحك وحتى باتت احاسيس ورسوماً وأنغاماً والحاناً محبوسة في حروف ومقاطع وسطور دافئة ، وأما ما كابدتيه من تأرق وتحرق وأنت تطاردين المعنى اللطيف الرقيق والنغمة التي لم ينبض بها وتر بعد ، وأما نشوة الظفر بما تريدين ، ومرارة الشعور بأنك قنعت من القفص بأقل مما كنت تريدين وتحلمين ، فهذه الأمور كلها فما أظن ان قارئك يفطن لها ، بل ما اظنك ، لو سئلت تستطيعين احياءها ووصفها والتعبير عنها بيراعك الأنيق ، انه النثر الشعري الذي لم يكتبه ولن يكتبه احد سواك .
فالحروف تسكنك يا عدلة منذ الصغر ، والمعاني تغازل داخلك وتعانق احاسيسك ، وتتراقص مخيلتك عاشقة للحرف مهما كان نوعه ، تكتبين بما يمليه عليك قلبك ويكتبك قلمك .
بارك الله بك عدلة شداد خشيبون ومتعك بالعافية ، ومد في نشاطك وعطائك ، ودمت بحضورك والقك وسطوعك الاشراقي في فضاء وسماء مشهدنا الادبي الذي اغنيتيه ورفدتيه ببوحك ونبضات قلبك ، لك الحياة .