كيف يمكن صناعة الدكتاتور وماهي المحددات والامكانيات؟؟؟
يشهد العالم العربي منذ مطلع العام الماضي ثورات شعبية أتت على أنظمة اتسم حكمها بالاستبداد والشمولية وتقديس الحاكم وانتهاك حقوق الانسان وقمع الحريات.
وانهارت أنظمة استبدادية، كانت قائمة في كل من تونس ومصر وليبيا، وتنحى رأس النظام عن السلطة مكرها في اليمن، فيما تطور الوضع في سوريا الى ما يشبه حربا أهلية بين قوات النظام والمسلحين من معارضيه.
وشكل الحكم الفردي المستأثر باغلب السلطات والثروات القاسم المشترك بين أنظمة كثيرة في الدول العربية، سواء كانت ملكية، او جمهورية تسعى لتوريث السلطة من الاب الى الابن.
وسجل الأنظمة الديكتاتورية في العديد من الدول العربية حافل بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان رصدتها العديد من المنظمات الدولية على مدى عقود. ويتساءل البعض عن السبب في استمرار هذه الانظمة عقودا طويلة وتأخر محاولات شعوبها في الانتفاض عليها والتخلص منها.
والملاحظ انه على الرغم من نجاح دول كثيرة في التخلص من انظمة الحكم الاستبدادية، كما حدث في دول شرق اوروبا وفي دول امريكا اللاتينية، الا ان الدول العربية، بشكل عام، تأخرت كثيرا في تحقيق التحول المنشود الى الديمقراطية.
بعد حوالي عقدين من الزمن على تغيير نظام الحكم في العراق مازال المواطن العراقي يبحث عن المخلص . اي القائد الذي سينقذه من الواقع المرير .
وفكرة البحث عن القائد المخلص لاينفرد فيها الشعب العراقي وحده ، بل ان اغلب الشعوب العربية والاسلامية تبحث بطريقة او باخرى عن المنقذ . وهم بذلك يبحثون عن شخص القائد اكثر من البحث عن نظام حكم ديموقراطي رشيد يضمن العدالة ودولة المؤسسات .
وهكذا مازالت تجول في عقولنا فكرة القائد الجماهيري الذي سينقذ الشعب والوطن من محنته .
ومن هذا المنطق ، وفي كل مرة نؤسس لمرحلة الديكتاتور المخلص الذي سيحرر الناس ويرفع الظلم عنهم . وكلما تخلصنا من ديكتاتور نصنع دكتاتورا جديدا دون ان نتعض بتجاربنا او تجارب الشعوب الاخرى . وها نحن اليوم نصع طغاة صغار لنضفي عليهم القدسية وصفات لايمتلكونها . .
وما ان يغمرنا الاحترام والإعجاب لشخص حتى يصبح من المقدسات التي لايجوز المساس بها ، فيتحول الى صنم جديد وخطوط حمراء لايمكن تجاوزها .
ان لدينا كل شيء لنصبح أمة ناهضة ، فنحن من الامم الغنية والقوية ولدينا المستقبل والتاريخ المجيد ، ونحن قادرون على تنمية بلداننا لتصبح في مصاف الدول المتقدمة لو تخلينا عن العصبية القبلية والولاء للاشخاص بدل الاوطان ، فالاشخاص زائلون والوطن باقي ذخرا وحصينا لكل الاجيال .
ورب سائل يسأل كيف يكتسب الديكتاتور مثل هذه السلطة ؟
هنا تأتي المقاربات والتشبيهات . فكثير من الاشخاص يعتقدون ان سلطة القائد في النظام السياسي اوالحزبي شبيهة بدور الأب في البيت ، فالأب لديه السلطة ليقوم بدوره في تسيير شؤون العائلة .
ويتم تشبيه القائد السياسي بالأب الحنون القادر وحده على حماية الشعب وتسيير شؤون المواطنين
وبذلك يصبح الشعب كالاطفال في الاسرة ، ينتظرون القائد الاب ليتخذ القرارات اللازمة لتسيير حياتهم . إنهم بحاجة إلى دكتاتور محترم ليقرر بالضبط كيف ومتى يجب عليهم العمل او التصرف في البيت والشارع والمجتمع .
هذه النظرة الابوية متجذرة في عقول كثير من الناس وهي تنسحب الى السياسة ورجال الدين ، وهذا هو جوهر الديكتاتورية .
فوجود الأب يعطي إحساسا للأبناء بوجود المصلح لأخطائهم والراعي لشئونهم بما يرونه في قوة الشخصية والاحترام ، وهذا ينعكس على سلوكنا في المجتمع والسياسة لنجعل القائد او المنقذ كالاب البطل الذي ينجز جميع المهمات ويحقق لنا الامان والعيش الكريم .
ومن هذا المنطلق ايضا ينظر الى رئيس العشيرة او القبيلة .
إن الإحساس بالوجود الحقيقي للقائد الأب كعنصر أمان هو الذي يدفع لصناعة الديكتاتور في كثير من الدول .
ولذلك نجد بعض الشعوب تميل إلى الحكم الاستبدادي ، فترفع شخص ما لتسنم مقاليد السلطة على حساب كثير من المؤهلين ، ثم يتم تدجين الافراد ليصبحوا مطيعين ومنضبطين من خلال الحرس الخاص او الميليشيات المسلحة ، بدعوى حماية الوطن والذود عن المواطنين ، فتتولى ميليشياته مهمة ضرب وترهيب كل من يمسه بقول او فعل ، لادخال الرهبة والخوف في نفوس اعدائه للحفاظ على سلطته وقدسيته .
وهذا يعد بحق من أهم وأخطر ما يواجه مجتمعاتنا ونظمنا العربية والاسلامية ، حيث ان السلوكيات والثقافات المتوارثة عبر أجيال والمستمدة من الافكار الدينية الخاطئة والعقلية القبلية المتخلفة تنسحبت الى الافكار والعقائد السياسية حتى وصلت الى الاحزاب الدينية والطائفية التي اخلت بموازين المجتمع المدني ، والتي ادت في النهاية الى الفكر المتعصب والتطرف الذي لايقبل الآخر ، فاطاحت بمفهوم دولة المواطنة والمؤسسات .
وهكذا ينخفض مستوى الفكر الديمقراطي في السياسة والمجتمع ، ويزداد الميل إلى خلق القائد المصلح والمقدس .
في مثل بلداننا يتم تأسيس الديكتاتورية من شخصية نرجسية مع القليل من المواصفات ، لتبنى عليه بعد ذلك صفات اسطورية لايمتلكها لتحسين صورته ليصبح المخلص والمنقذ الاوحد .
وهكذا يولد القائد العظيم .
وعلى عكس المنطق السليم
فالقائد عندنا لا يعمل من أجل الشعب . بل الناس يتفانون في خدمة القائد العظيم !
لقد هتف مئات الملايين من الناس لحكامهم الديكتاتوريين ، حيث يقتادوهم على الطريق للهتاف والتصفيق لاضفاء الهيبة والعظمة على الرئيس او رئيس الحزب وموكبه المبالغ في حمايته .
لكي نصنع دكتاتورا يجب ان نغرس حب الزعيم العبقري في اذهان الطلاب في المدارس والناس في الشوارع والمسارح والقصص الشعبية والموروثات والاعلام وفي كل المرافق العامة والخاصة ، حتى يصبح تقليدا شعبيا تتناقله الاجيال .
وهذا النهج مستمد من السلوكيات الخاطئة ، والعقليات القبلية المتخلفة . ثم ينسحب الى العقائد والممارسات السياسية .
باختصار نحن من يصنع الطغاة والديكتاتورية ، لاننا نخضع على الدوام لمنطق القوة والتسلط ونمكن الجلاد ليسود علينا ويمارس ابشع انواع الظلم والجور بحق الوطن والمواطن ، ونكون بذلك اداة الجلاد وضحيته بنفس الوقت .
ومازلنا نهتف لهم بالاهازيج والمهوال والاغاني والاناشيد والندوات والفضائيات ومسح الاكتاف . ننتقدهم في السر وفي مجالسنا الخاصة . ونهابهم ونقدسهم امام الملأ وفي المهرجانات والصحف المأجورة . هذا هو واقعنا على الدوام .
وكلما انزاح جلاد خلقنا جلادا آخر
الشعوب هي التي تصنع الديكتاتور.. فهي تصنعه ليحقق لها هدفاً قوميا.. ولهذا تؤمن به، فتفاجأ بأنه تحول من بطل قومي تعشقه الأمة.. إلي ديكتاتور تتمني أن تتخلص منه.
ها هو أدولف هتلر، المولود عام 1889 في أعالي النمسا الذي انضم إلي حزب سياسي صغير عام 1919 الذي غير اسمه في العام التالي الي حزب العمال الالمان الاشتراكي الوطني. وفي عام 1923 حاول الانقلاب علي حكومة ولاية بافاريا ولكنه اعتقل وسجن لمدة 9 شهور.. وهي الفترة التي وضع فيها كتاب الشهير »كفاحي« وقاد حركة قومية لمقاومة نتائج هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولي.. ولاعادة بناء ألمانيا.
** وانتخب مستشاراً لألمانيا عام 1933 واصبح حزبه النازي علي قمة السلطة وبدأ يخطط لإنشاء ألمانيا العظمي وأخذ يجمع كل ما هو ألماني، في النمسا وفي تشيكو سلوفاكيا ويطالب باستعادة وانزيج من الولندا إلي بروسيا. حقيقة لم يحكم هتلر ألمانيا إلا 12 عاما وحقيقة اعاد بناء ألمانيا وأقام ألمانيا من الحضيض.. ولكنه قاد ألمانيا إلي الحضيض مرة أخري.. وترك ألمانيا محطمة تماماً.. بل وتحتلها قوات 4 دول هي أمريكا وانجلترا وفرنسا والاتحاد السوفيتي.. ودفع الشعب كله والوطن كله ثمن جرائم ادولف هتلر الذي انتحر هو وعشيقته أو زوجته ايفا براون في ابريل 1945.. ولكن ألمانيا دفعت الثمن وظلت تدفع فاتورة ديكتاتوريته حتي بعد رحيله بعشرات السنين.
** وها هو الدوتشي اي الزعيم، تماماً مثل الفوهرر بينيتو موسوليني المولود عام 1883 الذي حكم ايطاليا كديكتاتور ورئيس للوزراء من عام 1922 حتي عام 1942 أي 21 عاماً لا غير.. ورغم ذلك، ورغم انه حاول اعادة الامبراطورية الرومانية القديمة وبناء المستعمرات.. بل ووضع برنامجاً طموحاً لإعادة تصنيع وبناء ايطاليا بدأ بالمسيرة الشهيرة إلي روما عام 1922 وسوي أموره مع الفاتيكان عام 1929 ولكنه
اعلن الحرب علي فرنسا وانجلترا وتم اسقاطه عام 1943 ولكن صديقه هتلر قام بتحريره من الاعتقال وعاد للسلطة.. ولكنه اعتقل عام 1945 عن طريق رجال المقاومة الذين أعدموه رميا بالرصاص هو وزوجته وعلقوا الجثتين علي الحبال والأعمدة.. وكانت تلك هي نهاية ديكتاتور آخر.
** وهذا ديكتاتور ثيلث – من البرتغال – اسمه انطونيو ري أوليفييرا سالازار اصبح رئيسا للوزراء عام 1932 وتحت دعاوي انشاء دولة عصرية ولكنه تولي ايضا، أو احتكر وزارات الحرب والخارجية حتي عام 1947 وبالذات خلال الحرب الاهلية في اسبانيا.. فقد كان يدعم ديكتاتورها الجنرال فرانكو، ويبدو أن الطيور علي اشكالها تقع: هتلر وموسوليني.. ثم سالازار وفرانكو!! وسقط سالازار بانقلاب عسكري ولكن بعد ان حكم بلاده حكما مطلقاً حتي عام 1974 أي بعد حكم دام 42 عاماً!!
** وهذا ديكتاتور ولكن من الشرق: كيم ايل سونج ديكتاتور كوريا الشمالية الذي حكمها بالحديد والنار 22 عاماً »فقط« من عام 1972 إلي وفاته عام 1994.. وحتي لو حقق الحاكم لبلاده كل شيء من بناء دولة عصرية وصناعة متطورة.. وأقام جيشاً جراراً إلا أنه في النهاية حكم بلاده كحاكم ديكتاتور لا يستطيع أي مواطن ان يرفع رأسه.. واتذكر حملات دعاية هائلة غمرت الصحف المصرية طوال كلمة تتحدث عن الحاكم الملهم الذي يفهم في كل شيء وكان يحاول ان يكون علي غرار حاكم الصين القوي، ماوتسي تونج.. وعندما مات… تولي ابنه حكم البلاد كدكتاتور آخر.. ومازال يحكم البلاد من عام 1994.. حتي الآن.
** وديكتاتور آخر من اوروبا.. من اسبانيا هذه المرة..
علاج ثوري لإنهاء مشاكل العلاقة الزوجية بدون أعراض جانبية.. يقوي حتى 5 أضعاف!
علاج ثوري لإنهاء مشاكل العلاقة الزوجية بدون أعراض جانبية.. يقوي حتى 5 أضعاف!
هو الجنرال فرانشيسكو فرانكو الذي حكم بلاده وسط معمعة الحرب الاهلية عام 1936 حتي رحل عن عالمنا، بعد طول مرض عام 1975. نعم هو أيضا استطاع ان يبني دولة عصرية خرجت من بين أتون الحرب والدمار وحولها إلي دولة صناعية من الطراز الأول.. ولكنه ظل الرجل الاوحد.. الحاكم الاوحد لمدة قرابة 40 عاماً وربما كان آخر رئيس وزراء عمل معه هو ميجيل فيرر الذي تولي رئاسة الوزراء لفترة محدودة.. ثم اصبح فرانكو هو الحاكم المطلق كل هذه السنوات.
وككل ديكتاتور حمل فرانكو اسما شعبيا هو »كوديللو« اي الزعيم مثل الفوهرر في ألمانيا والدوتشي في ايطاليا. وقاد ثورة عمال المناجم عام 1934 إلي ان اصبح قائداً وزعيما للثوار بين 36 – 1939 حيث قاد الاشتراكيين نحو النصر.. وتلقي عرضا للتحالف مع هتلر.. وظل في الحكم حتي أعاد الملكية الي بلاده ممثلة في خوان كارلوس الوريث الاكبر لآخر ملك لاسبانيا وكان ذلك عام 1975.
** وعندنا في الشرق الاوسط أمثلة عديدة..
هذا هو الاخ العقيد الذي يحكم ليبيا منذ سبتمبر 1961، أي منذ 42 عاماً نعم كانت بداية حكمه عبر مجلس قيادة الثورة .. ولكنه أزاح الواحد منهم بعد الآخر.. فأين هو عبدالسلام جلود أو يونس، ابو بكر يونس، أو الهوني بل اين كل رفقاء السلاح.. ليصبح هو، وأولاده، الحاكم الاوحد للشقيقة ليبيا.. يتصرف في أموالها كما يشاء.. وانتهي إلي أن يصف شعبه بانهم جرذان وفئران.. وكلهم يتعاطي حبوب الهلوسة!!
فيثور شعبه عليه ويفقد سيطرته علي الشرق الذي كان هو ولاية برقة ولم يعد له الا مدينة طرابلس وبعض ما حولها.
** ثم المشير عمر حسن البشير الذي استولي علي الحكم بانقلاب شهير في يونية 1989 من حكومة ديمقراطية وتولي حكم السودان علي مدي 22 عاماً وهو دولة واحدة موحدة.. وها هو الجنوب ينسلخ عنه ويصبح دولة مستقلة ثم ها هو إقليم دارفور يسير علي نفس الدرب ويكاد ينفصل والقلاقل تضرب شرق السودان وهكذا.
** ولا ندري لماذا يخرج كل ديكتاتور من عباءة انقلاب أو أوضاع سيئة.. علي امل ان يحقق للشعب الاستقرار والنهوض ولكن سرعان ما يندفع في تيار الحكم المطلق.. فيهوي هو والحكم كله .. هو والنظام كله.
واعيدوا قراءة المقال من أدلة لتعرفوا كيف تصنع الشعوب كل حاكم مطلق!!
إن تحرير الناس من الأغلال التي تُفرض عليهم حقًا أمر عسير، لا سيما إن كانوا يؤمنون بضرورة وجودها، إنه من الصعب أن تحرر السُّذَّج من أغلالهم التي يبجلونها. فولتير*
إن حياة المجتمع الحديث تنتسب إلى عالمين عالم واقعي، وعالم غير واقعي؛ فأما العالم الأول، فهو عالم العلم وتطبيقاته، وهو عالم تشعَّ منه أنوار ساطعة تُبهر الأنظار. هو عالم مرادفه الحقيقة المحضة الناصعة.
أما العالم الآخر، فهو هذا المسرح المظلم، الذي تتمثل عليه الحياة السياسية الاجتماعية، والهياكل المتداعية التي يقوم عليها بناء هذا العالم محاطة بضروب الأوهام والأضاليل.
هكذا يروي لنا جوستاف لوبون* قصة المسرح المظلم، التي تحاكيها الشعوب المُقيدة بأغلال العبودية ومن خلف الستار يدير الديكتاتور سيناريوهات القصة، قصة رغم قسوتها تؤمن بها الشعوب بل تبجلها. فما هي أدوات الهيمنة على الشعوب؟!
من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك. ميكافيللي.
صناعة الخوف
تعد ثقافة الخوف ميدانًا واسعًا لممارسة الضبط الاجتماعي والسياسي، وقد عرفته مختلف الثقافات وسعت إلى تأسيسه تحت ألوان ومسميات فنية رمزية مختلفة منها الأساطير الشعبية، التي تتخذ من المبهم والمجهول الذي يراقب ومستعد للفتك والإيذاء مادتها الأساسية ومنها يستمد الراوي والمشعوذ والكاهن قوته وهيبته.
فعندما يخاف الناس يكونون أكثر استعدادًا لقبول إجراءات تنتقص من حرياتهم الشخصية، بل حتى من مقومات حياتهم الأساسية.
ففي الوقت الذي كان يخطط فيه هتلر للحرب ضد الشيوعية، اتخذ حريق الرايخستاج في 27 فبراير 1933م، كذريعة لقمع الشيوعيين الألمان والحزب الشيوعي الألماني.
(حريق الرايخستاج اتخذ منه هتلر ذريعة لقمع الشيوعيين)
(حريق الرايخستاج اتخذ منه هتلر ذريعة لقمع الشيوعيين)
ناهيك عن يلتسن الذي كان يقصف البرلمان الروسي بالدبابات في نفس الوقت الذي كان يمرر فيه القرارات الاقتصادية التي أفقرت الشعب الروسي وأدت إلى إفلاسه، بدعوى القضاء على مجلس السوفيت الأعلى.
نظام التعليم.. غرس الديكتاتورية
لا تبدأ لعبة السياسة وتنتهي عند الأحزاب ومقاعد الحكم، ولا حتى في ساحات الحرب أو الثورة؛ فإن تأسيس نظام قمعي، ينصاع له المجتمع ككل، يحتاج إلى الهيمنة على المدارس والجامعات لغرس الفكرة في عقول الأطفال والشباب وأسلوب حياتهم.
حين يُعلن أعداؤنا أنهم لن ينضموا إلى صفوفنا؛ أقول لهم بكل هدوء: إن أبناءكم بيننا بالفعل. من أنتم؟ أنتم ستموتون، لكن أبناءكم يقفون الآن في المعسكر الجديد. في وقت قصير لن يعرفوا غير هذا المجتمع الجديد. هتلر 1933.
فقد كان التعليم هو إحدى أقوى أدوات غرس القيم النازية في نفوس الألمان؛ فلم يكن مسموحًا بانتقاد النظام النازي في المدارس، وكان المُعلمون المعارضون يُطردون أو يُرسلون للتدريب على القواعد الاشتراكية النازية، وسط صيحات (عاش هتلر) وصوره التي تملأ الفصول.
كما أن التاريخ لن ينسى المراجعة الشاملة للمناهج الدراسية في عهد موسوليني، التي كانت ركيزتها الأولى تعزيز فكرة الحرب والتوسع العسكري، مع غرس الأيديولوجية الفاشية في نفوس الطُلاب ومهاجمة الأفكار المخالفة لها.
الهيمنة الإعلامية
لا يمكن للدولة أن تسيطر على الجماهير بحق دون أن تُحكِم السيطرة على ما يلقى في عقولهم، وذلك بجعل الحقيقة هي العدو الأول، لا حصانة لأحد فالجميع مستهدف حتى لو كنت صحفيًّا، حتى في أكثر الدول ادعاءً للديمقراطية.
هل سمعت بقصة الصحفي جوزيف ويلسون الذي اتهم جورج بوش بتلفيق اتهامات كاذبة لصدام حسين؛ لتبرير الحرب على العراق أبرزها استيراد اليورانيوم من النيجر؛ فكان نصيبه توجيه تهمة التجسس لزوجته.
هكذا استثمر الطغاة عملية إنتاج الخوف من خلال جمع الأخبار والأحداث وإعادة التعامل معها بفنيات وتقنيات متنوعة لتأخذ طابع التصنيع ثم تقدم للجماهير في قوالب إخبارية وأجناس إعلامية بعضها درامي يصعب التخلص من تأثيرها العام.
ومع التكرار والضخ المتزايد لهذه الممارسات يتم تثبيت ما يعرف بثقافة الخوف في وسائل الإعلام، ومنها يصبح للخوف المُصنع إعلاميًا سلطة على المتلقي.
* فرانسوا ماري أرويه، المعروف باسم (فولتير) (1694-1778م)، كاتب فرنسي عاش في إنجلترا، ذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الظريفة، ودفاعه عن حقوق الجماهير.
* جوستاف لوبون(1841 – 1931م)، مؤسس علم نفس الجماهير، من مؤلفاته: حضارة العرب (1884م)، حضارات الهند (1887م)، القوانين النفسية لتطور الشعوب (1894م)، وأخيرًا الآراء والعقائد (1911م).
يبدأ طفلاً مفرط الدلال، مجاب الرغبات، تسهر أمه على زكامه الخفيف، ويقتل والده رفّ حمامٍ لعشائه!
كل أرصدة شقيقاته الإناث من المحبة والهناء والرضا تحت تصرفه، دائماً، فهو “الذكر المبجّل”، يحمل بيده تصريحاً بأنه الأجمل والأثمن والأحقّ والأولى.. لمجرد أنهن بنات وأنه ولد!
يتلقى تربيةً مريضةً، تحشو رأسه بفتاوى عن حقوقه فقط، وعن أهمية رأيه فقط، وأن العناد هو معدّات الرجولة الوحيدة، وأن النقاش ضعف، والودّ عيبٌ، والضحك في وجه شقيقته الصغرى انتقاص من مهابته!
وحين يكبر في بيت (الأنا المتورمة) يفهم أن تعريف الرأي الآخر هو.. رأيه نفسه إن جاء على لسان شخص (آخر)!
هكذا ينخلق الديكتاتور.
يتلقفه ديكتاتور أكبر منه قليلاً، فيقرأ عليه وصاياه المغشوشة، وتعاليمه الفاسدة، ويلقّنه كيف يلغي الآخر، ويقصيه، وكيف لا يحترم من الصناعات الحديثة غير المرآة ليظلّ يرى صورته المكبّرة!
يتلقى دورات مكثفة في التكفير، وإنكار الآخرين ورفضهم، وطرد كل فكرة لا تشبهه، مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم إن سمع أن هناك (آخر) له دينٌ آخر، أو اجتهاد آخر، أو يُشجّع نادياً رياضياً آخر!
وجود (آخرين) فكرةٌ تستفزّه دائماً، وتحرق أعصابه، ولا تُحتمل بالنسبة له!
وإن رأى أحداً بلون بشرةٍ لا يشبهه، أو يرطن بلغةٍ لا يفهمها أيقن أن مؤامرة تحاك ضده، وأن أمّه باعته للغريبين!
ثمة ديكتاتور صغيرٌ موجودٌ في كل واحد فينا، يكبر بحجم تدليلنا له، ورعايته، والسهر على خدمته!
وصغار الديكتاتوريين أقسى وأبشع، فهم غالباً جَهَلة، أجّروا عقولهم لخطابٍ واحدٍ لم يسمعوا غيره، ولم يحفظوا سوى تهديده ووعيده، وليسوا مستعدين لنقاشه، لكنهم مستعدون دائماً لإجبارك على سماعه!
وأسوأ ما يحدث للديكتاتور الصغير، هذا المسكين المثير للشفقة، الذي هو معلم مدرسة أو خطيب مسجد أو صاحب مخبز، أن يتلقف مفردات ديكتاتور أكبر منه، ويعيد رشق الآخرين بها، وأن يتربّى على خطاب قمعي يلغي كل من هو غيره، ولا يُمجّد غير نفسه!
ليس أبشع وجهاً، ولا أسوأ رائحةً من الديكتاتور المتثاقف، دَعيّ الفهم، الذي بُحّ صوته دفاعاً عن الحريات.. وهو في الحقيقة يقصد حرية الناس في تأييده والهتاف له!
وهذا منه كثير، شعراء وكُتّاب وفنانون وحزبيون وطليعيون ويساريون، يروّجون للحرية والرأي الآخر، ولكنهم في الحقيقة يتصدّون بسوقيّة ودونيّة بغيضة لأي (آخر) لا يتطابق حتى مع رأيهم في حالة الطقس.. ويصيرُ الرأي الآخر هنا خيانةً وتفريطاً ومساساً بالمقدسات!
والأسوأ، والأكثر مضاضةً أن يعيد هؤلاء عليك خطاب الديكتاتور الذين يدّعون مناهضته، فيتهمونك بطريقته، وبمفرداته ذاتها، فتلمح تحت طرف جاكيت كلّ واحدٍ منهم صورة الديكتاتور إيّاه!
المثير للحزن أيضاً، أن يصير المواطن المسكين ديكتاتوراً مسكيناً مثيراً للرثاء، ديكتاتوراً فقير الأدوات والإمكانيات، فيستبدّ بما أمكنه، ويدافع بشراسةٍ وحميةٍ عن فكرة ألقمه إياها ديكتاتور آخر، أجّره رأسه ليملأه له، فأسوأ ما يشوّه المجتمعات هو إعادة تفريخ الفاشيّة بنماذج صغيرة ومشوهة ونحيلة وقليلة الحيل من الديكتاتور المتغطرس.
في الجاهلية كانوا يصنعون أصناماً من تمر، فإن جاعوا، أو ضجروا منها أكلوها، الآن يصنعون أصناماً إن ضجرت منهم أكلتهم، وإن ضجروا منها.. أكلتهم!