لماذا يموت ملوكنا من القنوط في كل مرة ؟
فقط لأنه لا يحسنون صناعة أختام جديدة لأحلامهم
وانهم يتصورون المقصلة سريراً
والنساء الجميلات حسابا مصرفيا …
آه يا بلد..
لك في كل يوم نائحة لولد! الوصف هنا لدافع النحيب ، هو عبد الله آخر ملوك الأندلس . أخذته مثالاً لهاجس أشتعل في قحفة رأسي كما تشتعل القصيدة في رأس الشاعر.وحين عدت إلى تأريخنا المجيد لأستل منه رمزاً لحالة الفرح التي تنتابني على متن هذا المقال لم أجد أحداً . لأنني وأنا أتجول منذ الأمس في الأقراص الليزرية التي تحوي مؤلفات أصحاب مروج الذهب وتأريخ الطبري والجاحظ وأبن الرشد والاصفهاني وغيرهم . لم أجد أبتسامة تشفي غليلي سوى قهقهات الخلفاء في عهودهم الأموية والعباسية ، وكانوا في نشوة كأس ربما وهم يستحسنون مديحاً للمتنبي أو جرير أو أبي نؤاس أو نغمة عذبة من عود أسحق الموصلي.
وها أنا أضع التأريخ أمامي على شاشة التلفاز وبدءا من خليقة آدم وحتى عصر الطغاة الكثر هذا . كانت الأبتسامة تختفي بين طياة الكتب حد الذي رأت زوجة سقراط زوجها يبتسم . فتجهمت وسألته : لماذا تبتسم؟ ولأنه فيلسوف ويخشى امرأته كان رده جاهزاً. فقال : تذكرت حزني وابتسمت. ردت هي عليه بصلافة : حسبتكَ تبتسم لغير هذا؟.
لا أدري لماذا تذكر المثقفون العرب عبد الله الصغير آخر ملوك طوائف الأندلس يوم تجرأ المرحوم الباكباشي أنور السادات وذهب ليلقي واحدة من الخطب الارتجالية التي لانجدها حتى عند خطيب الثورة الفرنسية ميرابو. ولم يتفقه مثلها حتى خطيب العرب قس بن ساعدة : صاحب الخطبة المدرسية الشهيرة التي علينا أن نرتديها قميصاً ونحن ننظر إلى الغد بعيون أكثر سعة من عيون حصان. والقائلة: أيها الناس ،أسمعوا وعوا. وإن سمعتم فانتفعوا …إلى نهاية الخطبة. ذهب السادات إلى إسرائيل وشرب القهوة السوداء التي يحب مذاقها نابليون في كافتيريا الكنيست. وأعلن صلحاً كان في جانبه التاريخي صلحاً من جانب واحد . أي أنها مبادرة من الرجل ذاته تقبلتها إسرائيل بأنف يابس لأننا أتينا أليها بواحد من رؤساء جمهورياتنا العتيدة لنقول إلى عراب مجازر دير ياسين
: أن عبد الناصر عندما كان يقول بأننا سنرمي اليهود في البحر فأن الأمر لا يتعدى سوى مزحة من مزاحات صعايدة مصر التي لو جمعناها لصارت آلاف المجلدات.فكأن الأمر حسب في ذلك الوقت الذي ارتدى به السادات بدلة صممها له سانت لوران وركب الطائرة حتى دون أن يتناول فطوره قائلا للسيدة جيهان عقيلته : سأتناول الفطور مع السيد بيغن في تل أبيب.
وقتها صرخ الشاعر الشعبي المصري أحمد فؤاد نجم .:
لا أعرف بعد هذه المهزلة كيف سيأتيني الفرح ؟
الآن لاأحد يتذكر عبد الله ربما لأننا تعودنا رؤية هذا الكائن الصغير يومياً وهو الذي قرصت أمه أذنيه وقالت له بحكمة تملكها كل أم وطنية ، وما أكثرهن اللائى أودعن أولادهن في المنافي والمقابر الجماعية . قالت له وكان الرجل قد جاء للتو كي يحزم أغراضه بعد أن سلم المفاتيح لولية الأمر الأسبانية التي أنجبت لنا نقيضين لا يتشابهان :الشاعر لوركا والجنرال فرانكو هذا المعتوه الذي قال عنه االروائي الأمريكي آرنست همنغواي :
أنه يشرب الدم مثلما يشرب أحدهم عصير العنب . وفي ترجمة أخرى عصير التفاح لكن الدم ظل كما هو في الترجمتين .
قالت أم عبد الله الصغير: أبك مثل النساء على ملك لم تحفظه كالرجال.
أيام خطوة السادات الجهنمية انبرت كل محافلنا الأدبية ، حتى أن مجلة آفاق عربية وهي واحدة من مجلات الرصانة التي خطط لها بأنامله الرقيقة المرحوم شفيق الكمالي ثم توالت عليها مراحل الصعود والهبوط مثل أرجوحة، حملت في إحدى صفحاتها رسماً كاملاً لمشهد تسليم عبد الله الصغير وسيبقى صغير دائماً ، وهو يسلم المفاتيح للملكة الأسبانية ويقال :أنه سلم حتى مفاتيح الحمام الخاص به والتواليت الذي بعد مئات الأعوام فكر الرسام بابلو بيكاسو أن يجعله كاليرياً . لكن الجمهوريون رفضوا وقالوا : هذا رمز من رموز الهيمنة. وأظن أن المشهد المرسوم في آفاق عربية كان خلفية لقصيدة كتبها الشاعر السوري الكبير نزار قباني يتقدمها مانشيت عريض لبيت شعر للمتنبي قاله بحق كافور الإخشيدي : نامت نواطير مصر عن ثعالبها…
أذن وبدون تشاؤم مع الاعتراف بفضل الحزن على متانة أدبنا وقوة اشتغاله والسياب العظيم مثال لذلك نقول : أن الحزن بالنسبة للعربي حاسة سادسة غير الشم والنظر واللمس والسمع والتذوق ، بالترتيب الذي تعد فيها أبنتي زهراء في الصف الأول الابتدائي.
وهكذا نجد الندرة في هاذين الهاجسين بالنسبة لقيم المساواة العددية والكمية . وهذا يقودنا إلى شيء من المفارقة المؤلمة بين مجتمعين . واحد كانت الرؤى فيه يصنعها الأنبياء والاكتشافات الحضارية الأولى ،وأقصد المجتمع العربي .وبالذات جزأه الأزلي المتمثل بمنطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية ومصر واليمن، كون مرجعية التأريخ في هذه المناطق ترتبط بإنجازات حضارة العالم الأولى والذي مثلته سومر وبابل وأشور في العراق والفراعنة في مصر والفينيقيين والكنعانيين في بلاد الشام وفلسطين ، فيما كان لليمن السعيد حصة لابأس بها كون بلقيس والمرسال هدهدها قد عاشا فيها .وكان فيها سد مأرب الذي يفوق عظمة ومتانة ألف مرة سد أتاتورك الذي شيدته الجارة تركيا لتمنع مياه الفرات عن العراق وسوريا.
أما الرؤى الثانية التي أقصدها في هذه المفارقة ، فأنا أعني شعب حضارة الشمس الذي ظهر إلى الوجود بقوة في القرون المتأخرة الثلاثة وقد أتخذ من الشمس طاقة روحية لبناء وجوده الحضاري اليوم ، هو من الأحدث على صعيد التقنية والنظام الاجتماعي وحتى على مستوى الرفاهية رغم أن هذه الجزر لا توجد فيها قطرة نفط واحدة . وأقصد الإمبراطورية اليابانية والتي هي اليوم ليس بمفهوم الإمبراطوريات القديمة بل لأنها لازالت تحكم من قبل إمبراطور.
المقارنة تتحدث عن ا لمستوى البارومتري للابتسامة والدمعة بين الإنسان العربي والياباني ، متخذين أحداث القرن العشرين أنموذجاً كونه كان قرناً لكل شيء وخاصة فيما يخص التكنولوجيا والأحداث السياسية والأدبية وأشتغالات كثيرة أخرى لم تحض بها بقية القرون السالفة . وأنا هنا أ تصور الحالتين من خلال المشاهدة والمتابعة الشخصية ، وليس لأوراق الاستبيان علاقة بذلك وكالأتي :اليابانيون بكوا مرة واحدة بعمق هي عندما ضربت هيروشيما ونيازاكي ورأوا أمبراطورهم يوقع صك الاستسلام الذي كان أشبه بالفرج ، وعدا ذلك بقوا طيلة القرن العشرين مأخوذين بقصيدة لساداكي وهو شاعر من العصر الوسيط تقول : حتى الساموراي المنتحر عليه أن يودع العالم بابتسامة تشبه ابتسامة القمر.. فالياباني يشرب الشاي ويمارس الحب ويتلقى خبر حدوث الزلزال ويتظاهر ضد الفساد الإداري ويتحمل أمراض الشيخوخة ، ويحتج على منع بيع بضائع بلاده في أمريكا ، ويخرج من رحم أمه ، وفي كل هذه الحالات وهو مبتسم.
أخونا العربي لاأحصاء محدد لمرات بكائه منذ مشانق الوالي جمال السفاح المنصوبة لوطني سوريا العربية ، ومرورا بألف حدث مصبوغ بالدم ، إحصاءه يسد النفس حتى وأنت جالس على مائدة في مطعم مكسيم الفاخر في باريس.. حتى قال أحد مثقفونا : أننا يكفي أن نصنع من الدمع محيطاً بحجم المحيط الأطلسي .وأنا أضيف أليه أننا سكبنا دمعاً يكفي لملئ بحر بحجم البحر المتوسط كلما سمعنا أغنية أم كلثوم الرائعة : راجعين بقوة السلاح..راجعين كما رجع الصباح ، من بعد ليلة مظلمة…
هذه الأطنان الهائلة من الأحزان تضع فارقاً شاسعاً بيننا وبين اليابانيين يحق لنا أن نطلق فيها الوصف التالي : أننا أمة باكية ، وهم أمة مبتسمة .
ويبدو أني ملكت من هذا الاستنتاج رؤية قد لا يصدقها غير العربي عندما يقرأها : أن الحزن وبكاؤنا الدائم على الأطلال ، وهذا التأريخ الواقع بين مطرقة سيف الدولة وسندان العولمة . هو السر الأوحد في كل هذا الثراء الحسي الذي ملكه العرب منذ أن فكر جلجامش بكتابة مذكرات رحلته الخالدة ومروراً بفصاحة نهج البلاغة لأبي الحسنيين علي عليه السلام وحتى ثلاثية نجيب محفوظ . ولكن مع كل هذا الحس الجميل يظل بيت الشعر الذي وجده صومائيل كريمر مجهولاً في أحد الألواح السومرية والقائل : عندما وزعت الآلهة الأنصبة بين البشر كانت الحصة المخصصة لي الحرمان والألم . يظل ملازماً لذاكرتي مثلما يلازم الظل صاحبه .
أعود مرة أخرى إلى عبد الله . هذا الذي عرضوه كئيباً وحزيناً على شاشات التلفاز والذي تفكر والت ديزني أن تصنع من شخصيته بطلاً يعاكس كل أفعال ميكي ماوس الرجولية . الحزن هذه المرة وهو أعمق حزن عربي جلبه عبد الله لنفسه بيديه جراء تسليمه الأندلس للنصارى غير عابئ بكل غزليات أبن زيدون لولادة التي هي حتماً أجمل ألف مرة من كاترين دينوف حسناء فرنسا ، هذا الحزن سيظل يلازمنا لخطأ في أيديولوجية ذاكرتنا الحضارية هو أننا نصدق دائماً نوايا ساستنا وهم فوق خيولهم وشاهرين سيوفهم.