في منتصف العام 1974 بدأت إحدى (الصفحات الثقافية) في جريدة يومية تصدر في بغداد، بفتح مناقشات و حورات متواصلة، و متعددة، عن القصة العراقية القصيرة، أسهم فيها نقاد وكتاب عراقيون عديدون. في البصرة أخذ الصديق الشاعر”عبد الكريم كاصد”على عاتقه هذا الموضوع بجدية ومثابرة.. واقترح على أستاذنا القاص الرائد”محمود عبد الوهاب”، والقاص ” محمد خضير” هذا الأمر فاستجابا لذلك. تم تحديد المحاور الأساسية للحوار الذي جرى في منزل”عبد الكريم” منذ الصباح حتى المساء، و تم تسجيله،صوتيا. وبعد تحويله على الورق، من قبل سلمان كاصد وأنا، وبأشراف مباشر من قبل ” كريم”، أرسل إلى الجريدة تلك، للنشر فيها،
فخصته (صفحتها الثقافية) في العدد المرقم (285 ) الصادر يوم الثلاثاء/ بتاريخ/ 27 آب عام/1974/ بصفحتها كاملة، مع تتمة له شغلت نصف الصفحة السابعة. بقيت محتفظاً بهذا الحوار منشوراً، طوال هذه المدة التي تقرب من أربعة عقود. في إحدى زيارات أخي الشاعر “عبد الكريم كاصد” إلى البصرة، بعد سقوط النظام، و في جلسة خاصة، في مسكني، هو وأنا فقط، تطرقنا لأمور عامة وأخرى ثقافية-أدبية،ومنها هذا الحوار، وأخبرته بأنني ما زلت محتفظاً به منشوراً فاقترح عليَّ ، بمودته الأخوية المعروفة للجميع ، إعادة نشره. وقد استأذنت، بعد سفره ، أستاذنا الفاضل القاص محمود عبد الوهاب والصديق القاص العزيز المبدع محمد خضير على ذلك ، فوافقا على أعادة نشره دون تردد. وقد قام بإعادة طبعه مشكوراً الزميل الشاعر “كاظم اللايذ”.وأعيد نشره،الآن، بأسفٍ شديدٍ، بعد غيابٍ مؤسف ومفجع لأستاذنا الفاضل،حتى في ثراه، الأستاذ والمربي الكبير والصديق الرائع ، القاص الرائد “محمود عبد الوهاب” والذي حرضني ، وأقول وفاءً لأستاذي الغالي ، مقيل عثراتي في الحياة ” محمود عبد الوهاب” ،أنه أمرني، وأذكرها باعتزاز كبيرٍ وفخرٍ منيَّ لا حدود له ، خلال جلسات ليلية خاصة ،طوي� خاصة ،طويلة، بيني وبينه فقط ، وفي مسكني بالذات، على نشره قبل الآن، لكن مشاغل خاصة،بيَّ، وقفت دون ذلك، وهذا ما يؤسفني حقاً. كما أؤكد أن نشر هذا الحوار، و بصيغته الحالية،هو كما نُشر نصاً، لأول مرة في27 آب عام/1974/ ، قد تم تدقيقها من قبل الأساتذة الثلاثة الأفاضل، ولم يجروا عليها أي تغيير ما، غير تصحيح بعض الأخطاء الطباعية فقط. وإنني إذ أعيد نشره فذلك لأهميته الفنية والفكرية والثقافية والتطبيقية والتاريخية.
ــــــــــ
حوار حول القصة القصيرة
* محمود عبد الوهاب
* محمد خضير
* عبد الكريم كاصد
ما تزال المناقشة التي بدأتها صفحة ( ثقافة ) حول القصة القصيرة في العراق ، تستثير العديد من الإسهامات والردود ، و لربما كان هذا الحوار بين محمود عبد الوهاب ومحمد خضير وعبد الكريم كاصد تصعيداً للمناقشة وتعميقاً في آن واحد ، إن ما يمتاز به هذا الحوار هو الجانب التطبيقي الدقيق. لهذا ، ولأهمية المساهمة ، كرست لها الصفحة كاملة.
كـريـم : أود أن نبدأ حوارنا ببحث العلاقة بين القاص والواقع .. كيف يقدم القاص نماذجه؟. كيف تتشكل السمات الفردية للشخصية ؟. وكيف تستطيع هذه السمات أن تصبح موضوعية؟.
الـواقع والـوعي
محمود : يتبادل الواقع والوعي الإنساني التأثير فيما بينهما. وبين وشائج تلك العلاقة يحدد الإنسان صلته بواقعه وتفسيراته لظواهره ، مثالياً أو مادياً. تلك مسألة فلسفية معروفة. وبالنسبة للقاص تكون المسألة أكثر تعقيداً ، فإن للفن قوانينه الخاصة ، فاستجابة القاص لظاهرة اجتماعية معينة وتفسيره إياها لا تؤلف بالضرورة عملاً قصصياً ناجحاً ما لم يعبر عن تلك الاستجابة بالكيفية المناسبة ، أي بشكل فني جيد. على ان الشكل بحدّ ذاته لا يمكن عزله عن وعي القاص ، فهو يعبر عن نظرته نحو العالم والمجتمع. وحين يختار القاص نماذجه ، فانه ينتقيهم من خلال ذلك الواقع الذي يعيشون منه ، وحين يكتب عنهم فإنه يصورهم ضمن علاقاتهم الاجتماعية المعقدة . انه يلتقطهم من مجرى حياتهم اليومية ، من المقهى أو المحلة ، من زقاق معين في الريف أو المدينة وينهض بالسيمياء الفكرية لتلك الشخصيات حين يصورها وسط علاقاتها الاجتماعية المتشابكة ، المتناقضة والمتطابقة في آن واحد مع ذوات الآخرين والواقع المادي المعيش. انه يشكل سيماءها خلال ذلك التعارض والتطابق في العلاقات. كيف استطاع �ثلاً أن يقدّم نماذجه؟. إنهم في مجموعته( المملكة السوداء)أناس بسطاء ينطوون على همومهم الفردية ، ويتحركون وسط الصراع الاجتماعي في ظروف محددة. وحين لا يكون الأمر كذلك ، أي حين تنقطع صلة تلك الشخصيات بالحياة المتدفقة ، أو حين يعجز القاص عن تصويرها وسط تلك الحاجات ، أو حين يعجز عن كشف جوهر علاقاتها فإن شخصيات القصة تنحطّ إلى تجريد فارغ وعلى العكس كلّما كانت السيمياء الفكرية لشخصيات القصة منبثقة في تطورها الطبيعي في مسار الحدث القصصي ، كانت تلك السيمياء موضوعية.
محمد : بالإضافة إلى ما ذكره محمود فإن الشخصيات ، كما يقول لوكاتش تعيش ضمن تشابك العلاقات الإنسانية أو على حدّ تعبيره: فإن أناس الواقع يعيشون جنباً إلى جنب ، وإنما من أجل بعضهم بعضاً ، أو ضد بعضهم بعضاً.
الشخصية النموذجية
كريـم : لكن لوكاتش ، يفرّق بين الشخصية النموذجية والشخصية التي يسميها بالوسيطة ، ويرى ان الشخصية من أجل أن تصبح نموذجية يجب أن يطرحها القاص في تطرفها ، أي في تناقضاتها العميقة وجوانبها الجديدة المفاجئة ، لا من أجل هذا التطرف بحد ذاته ، بل من أجل أن تتفتح إمكاناتها المتعددة عبر علاقاتها الاجتماعية المعقّدة، عندما تظهر التناقضات الاجتماعية في الواقع اليومي بكل خصبها وغناها بصورة استثنائية ، أي بصورة نادرة غير متكررة أو عرضية. عكس الشخصية الوسيطة التي هي بلا إمكانات ، ولا ترتبط بالعام إلاّ عبر سمة عرضية. أو هي من جهة أخرى ذات سمات فردية ممعنة في التجريد بحيث تحذف فيها كل فردية إلاّ ان النموذج عند لوكاتش ، ليس هو الايجابي بالضرورة ولا يشترط ان يمثل الأفكار الصحيحة دوما ، من ناحية المحتوى الواقعي الموضوعي ، بل هو الشخصية التي يظهرها الفنان بشكل حي. عبر أوضاع ووسائل تعبير والتي تشق نوازعها الفردية بوعي اطر العالم الفردي المحضّ ، دون فقدان القسمات الفردية. فهل تقدم القصة القصيرة عرض النموذج في بعض جوانبه الجوهرية . وهل تحقق ذلك في قصصكم ؟ .
المرأة والطقوس
محمد : الكاتب ، كأي فرد يعيش في ظرف معين ، زمان ومكان معينين ، يعيش مع أناس يلتقيهم في الأسواق والمقاهي والشوارع ، وفي أمكنة أخرى ، فيختار شخصياته من بين هؤلاء الذين يعبرون في مجرى حياته اليومية وقد تكون ملامح هؤلاء مندغمة أي ملامح موزعة على عدة أشخاص ، لكنه يصعد بعض هذه الشخصيات من مستوى واقعها اليومي واقع القصة فإنها تنفتح عن ملامح فردية خاصة بها في تشابك النوازع الإنسانية والعلاقات الداخلية في القصة ، ترقى إلى ملامح نموذجية. إلاّ أنني أود أن أشير إلى جانب له علاقة بواقع العلاقات الاجتماعية في بلادنا ، يمكنني تحليله بالاستناد إلى شخصية المرأة في قصصي. المرأة في قصصي ليست موضوعا للحب ، إنها موضوع للطقوس. اعتقد ان شخصية المرأة كانت وسيطا جيداً للولوج إلى مملكة الطقوس السوداء. في قصة (الشفيع ) مثلاً تجد المرأة في الطقس الديني الجماعي يجرفها نهر من الذهب والرخام. وفي قصة ( الأسماك ) يغرق النهر فتاة الشرفة. النهر في هاتين القصتين يمثل جرياناً طقسياً ، جريان الوعي المعقد بالصور والذكريات ، وفي الوقت نفسه ، يمثل رغبة في الاغتسال والتكفير . وذلك لأن مثل هذا النموذج ذو ملامح نموذجية مشتركة ، أو ملامح نمطية على وجه أدق ، حادة في الواقع الخارجي للقصة ، في الوعي الاجتماعي الموروث . ان الوعي الفردي للقاص يحاول التخلص من تأثير هذه الصورة المؤطرة ، يترسم حياة متفردة في واقع القصة الداخلي . ولكن هل ينجح غالباً في مهمته؟. إني اعترف بأنه لا ينجح تماماً ، إلاّ عندما يتجاهل مواصفات الواقع الاجتماعي . هكذا تدخل المرأة القصة ، وكأنها تدخل ضريحاً، بكامل ثيابها ونواياها التي تنطوي عليها كالتعاويذ. إن وعيها المثقل بالمورثات مغطى بعباءة سوداء . والقصة حين تحاول أن تساعدها على فض طلاسمها فإنها تخوض صراعاً لتحليل دواخلها ونواياها، يناظر صراعها ضد عوامل أسرها الاجتماعي .
محمود : (تعقيب على محمد): أعتقد ان الشخصية النموذجية ، هي ليست في تجاوز القسمات الفردية ، وإنما في تأكيد القسمات الفردية .. في تأكيد الخصوصية . خصوصيتها..عندما يعبر محمد عن المرأة العراقية في قصصه ، يعبر عن شخصية وسطية مشتركة الملامح بين النساء ؟ الشخصية النموذجية، ما ذكر محمد ، تمتاز بوعي وجودها ، وعي مصيرها لذا نقول من باب الدقة ، إنها ملامح مشتركة فقط وليست نموذجية.
محمد : هذا صحيح .. يمكن القول عن شخصيات المرأة في قصصي إنها ذات ملامح مشتركة ، وهذا لا يعني انه لا توجد في الواقع العراقي شخصيات ذات ملامح تتميز بحدة تقاطيعها النموذجية هناك نساء يعرفن عن باحات السجون أكثر مما يعرفن عن باحات بيوتهن، إلاّ انني كتبت عن نسوة أكاد أتخيل حضورهنّ فيما أكتب ، نساء مررن في حياتي مروراً عابراً أو راسخاً..الأمهات العراقيات الغارقات في الظلّ. ظلّ ضوء فانوس يختنق في هواء كوخ ، يقع على ضفة الذاكرة الشاسعة المكدّسة ، بمشاهد الحبل والولادة ، ودخان الطبخ والمآتم والأعراس والحيوانات والأزواج الغائبين والأبناء المفقودين ، نسوة من اللواتي تشاهدهنّ في لوحات بعض الفنانين. ان سيدات النهار المغطيات بالسواد (الذي يعني الحرام أو الحداد ) يتنقلن في سوق أو يجلسن على مقعد باص أو يستظللن بقبة ضريح، وما أن يأتي الليل ، الليل الآسيوي ، حتى يسلمن أجسادهن المطرزة بالوشم لأصابع الظلام والأشباح واللعنات المجهولة. ان الشخصية النموذجية للمرأة التي أقصد ، تتكون من خلال الوعي الاجتماعي، وعندما نقول عنها إنها ليست نموذجية ، وإنما وسطية فلأنها منظورة من خلال ممارساتها المنزلية والأمومية والطقسية. يومها يوم عراقي ذو أربع وعشرين ساعة مرهقة. ومن خارج هذا اليوم لا أجرؤ على اختيار امرأة لقصصي لحد الآن. قد يصور القاص امرأة ذات سمات فردية من خلال ممارسات معينة ، تتمرد فيها على واقعها، غير ان هذا لا يجدي أساساً. فهي لا تستبدل إلا قيداَ بقيد وسيداً بسيد. الأمر سواء للصياد الذي يصطاد طريدته الخائفة في جحرها أو يستدرجها لمسافة قصيرة خارج جحرها ، لتمرح قليلاً ، فهو يمنحها الأمان كي تقترب منه ، فيجهز عليها. القاص صياد ، محرر، مغامر ؟. إني لا هذا ولا ذاك. إني فقط اذكّر بقصة الفئران التي اعتمدت على ذكائها الفأري للتخلص من القط الضخم ، ولا بأس في أن تستعين بفئران من جحور أخرى. كي لا أتكلم عن الفأر ، يمكن القول: المرأة في قصصي نموذج اجتماعي وليس فردياً.
الشكل والعلائق المعقدة
كـريـم : انني اتفق مع محمد في كون المرأة عنده ليست موضوعاً للحب غير انني اختلف معه في كونها للطقوس . إنها بالفعل كذلك في بعض قصصه ، غير إنها في معظم قصصه مسحوقة اجتماعياً ، غير قادرة على إدراك حركة الواقع ، لأنها بالأساس تنتظر في وضع لا يتجسد لها الواقع من خلاله إلاّ بسكونية ووطأة ثقيلة ، تبدو أمام حجمه الهائل ، صغيرة ، غائمة الملامح ، مسحوقة ، تنتظر شيئاً مفقودا . حتى حركتها الظاهرة ، إنما هي حركة أشبه لرتابتها بالسكون (شخصية العاملة في أمنية القرد مثلاً) إنهنّ لم يرتقين إلى نماذج ، بسبب هذه السمة العرضية التي تبدو أمامها سمات الأوضاع التي يعشنها ، أكثر تميزاً واتساعاً . لقد ذكر محمد في (البدايات ) ان قصة الشفيع هي عالم مبتكر استثنائي ، لا بالمعنى اللوكاتشي، ذو علاقات جديدة غير نمطية ، وصور افتراضية روحية منهمرة ، حتى كأن الشفيع قصة ليست من عصرنا ولا أيامنا، مما جعل محمد يعتقد( انه لم يختر امرأة من طبقة اجتماعية معينة ..). إلا إننا لا نستطيع ان نتصور امرأة الشفيع الآتية من ( السماوة ) إلاّ من تلك الفئات الوسطية المسحوقة ( فقراء المدن ) التي تقف في أدنى السلم الاجتماعي ، يدلك على ذلك إلى حد ما حوارها العابر غير المتكلف وزوجها الحامل السفينة، المهموم بعد ذلك بالالتحاق بالموكب الساكن معها في الغرف المظلمة التي تصفها القصة ، إنها بدون مصاريع كأقنان الحَمام، غير أن حضورها يمحى أمام حضور الطقوس ، إن انغمارها في الحاضر جعل سماتها محدودة بهذا الحاضر الذي يجرفه ، هو أيضاً ، نهر الطقوس. ان المرأة هنا في حضورها الممحو رغم ان حوار المرأة العابر يهب هذا الحضور حيوية تجعله في تواز حي متوار أمام حضور الطقوس. غير أن المرأة في( الشفيع والأسماك ) لا تشكل نموذجاً لأنها لا تعيش ذلك التوازي والتضاد اللذين أكدهما محمد في بداية الحوار لا سيّما المرأة في الأسماك ، لأنها بالأساس ، لا تعيش حتى في عالم ذي صور مفترضة ، بل هي تعيش في عالم مفترض ذي علاقات مفترضة.ان النموذج ، أكاد أجده ، في شخصية الجندي العائد. وليس في المرأة عند محمد،وخاصة في قصة (تقاسيم على وتر الربابة ) انه نموذج حقاً ، فالشخصية قد طرحت منذ البداية في تطرفها أي في تناقضاتها العميقة وفي وضعها النادر غير العرضيّ.إن الجندي يعي مصيره الفردي.انه يشي بعقمه الفردي ، ابتداء من حواره اليائس الخافت حتى صكيك ربابته الذي أحال رأسه حجراً. غير ان هذا المصير الفردي ( العجز ) أصبح في القصة تعبيراً عن حالة نموذجية عامة ، كل ذلك ندركه ، لا من خلال واقع خارجي مفترض أو قبلي لا نعرف عنه سوى انعكاساته الساكنة، بل من خلال واقع القصة الفعلي الذي يعبر عن رؤية القاص العميقة للواقع .. هذه الرؤية التي نهضت بالشخصية من الفردية إلى المستوى النموذجي. إن النموذجي كما المحنا سابقاً ليس هو الايجابي بالضرورة – وإن كان هذا ما يطمح إليه كتاب الواقعية ، بل هو الذي يعبر عن هذه الرؤية العميقة للواقع بما يفرزه هذا الواقع من شخصيات قادرة ، أو غير قادرة على تحقيق إمكاناتها . لقد طرح بريخت نماذج سلبية ، تعي سلبيتها في بعض مسرحياته ولكن عبر رؤية عميقة للواقع ومنظور ديالكتيكي واضح المعالم رغم تأكيد بريخت (على الحديث عن الناس في لحظاتهم البطولية ، وليس في لحظات ضعفهم ).ان النموذجي حين يعي وضعه وسط علاقاته الإنسانية في القصة لا يعبّر عن وعيه بالأفكار المجردة ، المفروضة عليه من خارج القصة والتي ترتدي ، أحياناً أقنعة الشعر المشوه ، كما يحدث هذا عند الكثير من قصاصينا العراقيين ولا يشترط ان يكون ذا وعي مسبق، بل يعبر عن وعيه من خلال مساره الحياتي المشخّص في القصة . فالعاملة مثلاً ، في قصة عبد الملك نوري (العاملة والجرذي والربيع) نموذج متطرف بكل تناقضاتها ، بتفتحه وانطوائه ، وبوعيه المحدود لهذه التناقضات ضمن الواقع المعطى في القصة ، ذي العلاقات المتشابكة التي تحمل معنى التوازي والتضاد ، بشكلها الفني المتحرك ، الذي لا يعكس عجزاً ذاتياً بل يعكس واقعاً مفروضاً. فلو أضفى على العاملة وعياً خارجياً طارئاً ، لأحالها إلى شخصية وسطية باهتة. لكنه استعاض عن الحدث النادر الاستثنائي بالدلالات الأعمق للحدث اليومي.
تـطــبيـقـات
محمد: (العاملة والجرذي والربيع ) قصة رائعة. العاملة في قصة “عبد الملك نوري” تمنح عاطفتها الإنسانية كاملة لبائع الجرائد الذي تسميه -جريدي- يقابل ذلك إحساس قاتم بعالم بيتها القديم ، وتقاليده المظلمة المتسخة. فقد خرجت من جحرها إلى مسافة لتعود إليه آخر النهار ، وتبدو أيامها متشابهة ، ذلك لأن العمل لم يحل مشكلتها تماماً ، إنها ليست عاملة بالمعنى الدقيق ، لكن شعورها مع المسحوقين من أمثالها. في قصتي – أمنية القرد – علاقات من نوع مختلف.. فعلاً في القصة عاملتان في معمل الخياطة، هنا تقدمت الفتاتان مسافة أبعد، ويبدو انهما ستتغلبان على خوفهما الاجتماعي.. فأمامهما فرصة ليرتطم وعيهما بعوامل استقلالهما الاجتماعي والاقتصادي من خلال إدراكهما لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المعمل. لكننا في يوم عطلتهما الذي يبدأ في القصة ، نتعرف على مخاوف ووساوس من نوع جديد. ان العمل الذي كان يربطهما بمجموعة بشرية من النساء يدفعهن إلى وحدتهن خارج ساعات العمل وتفتح وحدتهما أبواباً للخوف من بعضهما والخوف الخارجي المتمثل في الغجري صاحب القرد ، هذا الشعور يتضح أكثر عند الفتاة الأخرى التي ترى في الغجري صياداً ، كما تفترض دلالات و أوهاماً في أشياء الغرفة التي تجمعها صاحبتها على الدوام ، وفي خيول سجادة الحائط ، وفي عيني القرد ، وفي شخصية صديقتها . لذا فإني اعتقد بأن الشخصيات ترتقي إلى مستوى نموذجي إزاء تنوع العلاقات وتشابكها ، من خلال تأكيد القسمات الفردية لكل شخصية ، كما ان شخصية الجندي التي ذكرها كريم هي نموذج ، لأنها ترتبط بوضع ، أو حالة نموذجية ، في القصة وفي الواقع .. الحرب في الواقع أو العودة من الحرب في القصة. وأوافق كريم في أن شخصيتي المرأة في قصتي- الأسماك والشفيع- لا تتمتعان بقسمات فردية ذات مستوى نموذجي . فإمراة (الشفيع) مثلاً من مجتمع متجانس ، وفي مجتمع كهذا ، مجتمع مدينة السماوة ، تكون النساء في عصمة الرجال ، يتبعنهم طبقياً واجتماعياً. ان مكانة المرأة فيه تتحدد بهوية زوجها الطبقية ، ومكانته الاجتماعية. والواقع إن انتماء الرجل الطبقي في هذا المجتمع لا يغير كثيراً من الوضع الفردي والاجتماعي لامرأته .. فقد تكون للرجل أكثر من امرأة – اثنتان أو ثلاث ، أو أربع-، إلا ان الحق الأول والكلمة الأولى تكون للرجل سواء أكان تاجراً صغيراً أو حرفياً ، أو رجل دين. حتى ان سلطانه يمتد ليسحق وعي- حرمته- وأحلامها وتطلعاتها ، لأنه لا يستمد سلطانه كزوج بمفرده ، وإنما بتأثير- واع أو غير واع- من مجتمعه وعاداته المحافظة ، لذا فإننا في قصة الشفيع إزاء وعي منكمش ، مأسور ، عاطل ، ممحو ، تحت وطأة الطقوس الهائلة والسطوة الاجتماعية التي تستمد قوتها من الدين وشرائع الماضي . هذا ما اقصده بأنها قصة موحاة لا تنتمي لعصرنا أو لأيامنا .. الخ . أي انها ليست تجسيداً لروح عصرنا أو لحاضر واقعنا ، إنها عالم استثنائي مبتكر ، لأنها تشير إلى عالم طقسي ، خرافي ، لا زمني . الطقس قوة تخدر أو تكبل الوعي بالحاضر لفتح بوابة اللاوعي لتتدفق كنهر من الموروثات والصور والأحلام والافتراضات المختزنة طيلة زمن الاستعباد الاجتماعي والروحي ، يجرف ما هو حاضر وما هو واقعي. ان حضور الطقس يطغي على حضور الواقع .. وما يبدو حواراً عابراً ، غير متكلف في القصة ، هو شبيه بفترات الصحو التي تسبق الغيبوبة. وهنا علينا أن نقارن وطأة الطقوس بغنى العلاقات الجديدة في قصة – أمنية القرد- الوضعان يختلفان نوعياً ، ولكنهما يتساويان في درجة الثقل أو الوطأة . كلاهما يفاجئ وعي المرأة ويجعلانه في حالة من الانكماش لا في حالة السكون ، كما قال كريم، ان وعي المرأة في هذه القصص هو وعي ثاقب ، قد ينكمش إزاء ردود الأفعال الخارجية الكبيرة ، لكنه سرعان ما يعاود الثقب بدأب في العباءة الهائلة ، محاولاً الخروج إلى النور.( يتبع)
محمود : أين تحققت معاودة وعي المرأة بعد انكماشه في محاولته للخروج في قصصك؟.
محمد : في قصة (أمنية القرد) مثلاً ، نجد الشخصية الثانية ، أكثر اندماجاً بالواقع الخارجي ، وأكثر جرأة في تحدي واقعها ، ويتوفر في الحوار توتر في علاقة الفتاتين بالواقع يعبر عن حالة الانكماش والخروج .
كـريـم : ألاحظ أن العاملتين في قصة – أمنية القرد- تربطهما بعملهما علاقة عرضية ، لا تشكل سماتهما الجوهرية ولا ترتفعان بهما إلى مستوى النموذجي ، لأن سمتهما الفردية وانعكاس الواقع على هذه السمات تحدد منذ بداية القصة دون معرفة كافية بهذا الواقع الخارجي وتأثيره الجدلي المحسوس في تحديد هذه القسمات. فهما تبدوان كأنهما في وضع خاص ، معزول ، محكم فنياً ، يؤكد حوارهما المغلق ، المرهق بالأحاسيس الحاضرة . فعندما تسأل إحدى العاملتين الأخرى : هل تخرج معها إلى سوق الجمعة؟. تجيبها هذه إنها لا تعلم بوجوده ، رغم اكتظاظ الغرفة بالأشياء المشتراة منه ، ورغم تجاورهما الطويل ، فكأن الذهاب إليه يتم للمرة الأولى. ومما يزيد عزلة إحدى هاتين العاملتين ، وهو مرور الغجري والقرد الذي يكاد أن يكون معزولاَ هو الآخر ، إذ ليس هناك صخب عند مرورهما ، ولا أطفال أو نساء ، فكأن الغجري وقرده يسيران في مسرح صامت وليس في حي شعبي. يتكرر هذا الوضع أيضاً في قصص أخرى لمحمد فنحن نجد الوضع ذاته أيضاً في قصته – حكاية الموقد- غير أنه في هذه القصة يحاول ان يجد امتداده للخارج عن طريق الخيال الشعبي ذي الدلالات الغنية والتذكارات المعذبة ، التي تحيل الواقع إلى صدى باهت ، مثل ذلك القطار في القصة ، الذي نسمع صدى عويله وحوار عامليه ، دون ان نراه ، مما يضفي على الوضع سمات أكثر وحشة من سمات شخصياته ، ان هذه الظاهرة، ظاهرة الوضع الخاص المعزول ، نلاحظها أيضاً في قصص محمود ، ففي قصته – الشباك والساحة- يحاول هذا الوضع ان يمتد عن طريق الحوار والحلم ، أو الرؤية البصرية إلى علاقات أخرى ليست مفروضة من الخارج ، بل هي امتداد طبيعي لهذا الوضع الذي تجعل منه أكثر عزلة ووحشة. فهل هذا الوضع يرتبط بمرحلة معينة من مراحل تطوركما القصصي، هو الذي يمنح القصة طبيعتها المتميزة؟. وهل تكرار تكنيك اللوحة المعلقة على الحائط الذي يرافق هذا الوضع الخاص في قصصكما دائماً يشكل ظاهرة نلحظها ليس في أدبكما وحسب ، بل وفي كثير من الروايات الحديثة في الأدب الألماني والأدب الفرنسي بشكل خاص؟.