اعتذار
فاتني سهوا ،عند نشر القسم الأول من هذا الحوار، إلى أن أشير إلى الصحيفة التي نُشر فيها ، مع أني ذكرت رقم العدد والتاريخ، إذ أنني كتبت المقدمة عند عودتي ليلاً من نهاية مجلس العزاء المقام حداداً على رحيل أستاذنا الفاضل محمود عبد الوهاب والذي استمر لمدة ثلاثة أيام، وحضره عدد كبير جداً من أبناء البصرة الكرام ، وبمختلف شرائحهم الاجتماعية، وبودي أن أشير إلى إنها صحيفة (طريق الشعب) مع خالص الاعتذار للصحيفة الغراء، والقراء الأعزاء عن ذلك السهو غير المقصود/جاسم
ــــــــــــــ
الشباك والساحة
محمود : تفرض – الشباك والساحة- حالات متعددة من العجز والإحباط ، في المكان – الغرفة – الذي يفرض حصاره على الصبي المشلول ، وفي علاقات التضاد التي تقوم بينه وبين أشياء المكان . فالشباك بدلاً من أن يكون عيناً مدهشة للتواصل مع العالم الخارجي يرتد إليه محملاً بمعاني الإحباط ، والسجادة – وهي منظر أخّاذ لواقعة صيد تفترض قوة بدنية عالية – تشير وسط هذه العلاقة إحباطه بالانتماء إلى عالم الأصحاء. إن ما يبدو عزلة من خلال وصف المكان والأشياء ، ومن خلال الوضع الخاص للقصة ، هو تعبير حسي ، مرئي ، لحالتي العجز البدني والإحباط النفسي الذي يحاول الصبي ان يتجاوزهما بالحلم والخيال التعويضي . ان حلم الصبي ، بعد مواجهة مضنية للواقع الخارجي يعبر عن ذات محبطة أثقلها القهر الاجتماعي بسبب العجز. انه يسعى إلى التواصل مع الآخرين بأحلام اليقظة ومراقبته اليومية لملعب المدرسة ، ليس للخروج من عزلته – التي هي نتيجة لعجزه البدني – بل لتخطي ذلك العجز والإحباط . إن حصار المكان والأشياء هنا حصار نفسي ، أكثر مما هو سجن لبدنه ، ومن هنا تأتي العلاقة العضوية لسجادة الحائط مثلاً ببناء القصة. إنها ليست ديكوراً أو قطعة من أثاث البيت ورياشه تستقرياشه تستقر على جداره ببرود يومي لتغطي ببهجتها جزءاً من الجدار، صحيح انها عُلقت بالأصل لتؤدي هذا الغرض ، كما نعلّق نحن صورة الحائط في بيوتنا ، ولكنها لم تعد تحتفظ بهذه الصفة فقط ، بل أصبحت موضوع تصور إنساني . انها دخلت مع الصبي المشلول في علاقة ، لذلك فهي تستمد قوتها من حقيقة كونها جزءا فاعلاً في علاقات القصة ، وليست هامشية أو عرضية. إن تكرار ذلك في – يوم في مدينة أخرى – يأتي لنفس العلاقة العضوية بالبناء الفني للقصة . إنهما ، كليهما يغنيان علاقات القصة بمعان إيضاحية وإيمائية عن طريق هذا الاستخدام في الشكل .
محمد : الغرفة ، الساحة ، النافذة ملامح مكانية تتكرر في قصص مثل- أمنية القرد – و – الشد – و – الشباك والساحة – وهي لا تعني تأثيراً خاصاً . إنها إطار تلجأ إليـه القصة القصيرة لحصر الحدث ، وقد تجد الغرفة كمكان عرضي أو عادي من تطور الحدث ، لكن عاديته تأتي من عادية انتشار الناس ، فالناس ينتشرون في المدينة ثمّ يعودون إلى غرفهم ، إنهم يحتجبون داخل الجدران في فترة من يومهم دون ان يحسّوا بأي حجر على حريتهم . تأثير الغرفة يختلف مثلاً في قصة لسارتر – الغرفة – ، هنا نحسّ بحدود الغرفة إحساساً داخلياً حاداً . في القصة شخص لا يبارح غرفته التي تسودها العتمة فترهق هلوسات العزلة جسده وتستولي على علاقته بزوجته. الغرفة كما لو كانت رحماً يقيه شرور العالم الخارجي ، ولو كانت الغرفة زنزانة في سجن لنشأ وضع معزول من نوع آخر يتجه بشدة نحو الخارج. فالسجين الذي يعيش على ماض من الذكريات ، يحول زنزانته إلى شوارع وساحات ودور سينما أو إلى مخدع وثير . ان ذاكرته التي اخترقت الجدران لتطارد أشلاء حياته تعود إليه منهكة ، لكن السجين يشعر بالإنهاك في جسده ، فكأنما هو الذي غادر الزنزانة ثم أعيد إليها . بينما الغرفة التي أشرتُ إليها في قصتيّ السابقتين تطل على ساحة ، ومن خلال النافذة يهجم الضوء الغزير ليذيب الجدران. الغرفة جزء من الساحة ، من الخارج. وسجادة الحائط هي نافذة أخرى تهجم عبرها الخيول من الأزقة الساكنة , من هذه النوافذ المفتوحة على الخارج تدخل رائحة الناس وحركة الحياة الزاخرة والأمنيات الطريفة والمستحيلة والرغبات الجامحة, كانت عزلة العاملة في الغرفة مؤقتة وواهية. لقد جعلت الصمت يتبع الغجري والقرد ولو إني تركت صبيان المحلة يتبعونهما لأفسدوا اللحظة النموذجية التي تشكل ذروة القصة. الخيول تجري صامتة أيضاً ، ولكنه صمت كاذب كما يخيل لنا . فليست القصة إلا سطحاً كاذباً ينزلق بصمت رويداً رويداً من تحت أقدام الشخصيات لتسقط في لجة الاحتمالات وتصارع مصيرها. ان بداية القصة تعني البداية المناسبة للحدث والذروة تعني اللحظة النموذجية لانعطاف الحدث ، بينما تظل نهايته�ير أننا نحسّ خصوصية المكان في قصة – حكاية الموقد- فهنا بيت وسط الحقول جوار محطة يتوقف فيها قطار ليلي قادم من جهة ما ، وجدة تأتي من مكان ما – كما لو كانت رسول الحقول أو رسول الموت- لتقص الحكايات كل مساء ، تمدد بها أمد الانتظار الخرافي لرجل – جندي- قد لا يعود أبداً. ومع ذلك فكل شيء يبدو حقيقياً وسط هذه الخرافة .. البيت والموقد والحكايات والقطار والموت والرجل الغائب وصورته. ان الصورة في القصة هي حقيقة حضور الرجل . لذا فهي صورة نابضة بالحياة المستورة خلف الزجاج ، تشارك العائلة طقسها الليلي المستمر ، انها حقيقة استمرار الانتظار، لأنها تنتظر مثلهم . وبشكل مغاير عمدت إلى استخدام الصور أو اللوحات في البناء التركيبي لقصة – الصرخة- فالمشهد الأخير من القصة ترجمة بالكلمات للوحة الرسام المكسيكي – سيكيروس – التي يظهر فيها طفل وسط مساحة من الحطام تتوالد من صرخته وجوه تشبه وجهه الأصلي تخرج من فمه. كما استخدمت الصورة السينمائية في قصة – القطارات الليلية- لأغناء البناء القصصي بأبعاد وامتدادات مكانية وزمنية واسعة.اختم هذا التعقيب بالاستدراك على ما سمّاه كريم بـ (الوضع المعزول ) انه عندي نظير الجو القصصي المحكم ، بدلالته وكثافة إيحاءاته المنعكسة على البيئة المحلية اقصد البيئة الجنوبية ، أهوارها وغابات نخيلها والصمت الذي يترعرع فيها ومدنها الأليفة القائمة على حافاتها وفي ظلالها وبشرها الساخنين. انه أسلوب فني يسيطر على اغلب قصص- المملكة السوداء-
أشياء الواقع أم الشيئية
كـريـم : مادمنا بصدد التكنيك ، فإن ما يستأثر بانتباهنا هو طريقتكم في وصف الأشياء الذي رافقه فهم خاطئ من قبل بعض النقاد العراقيين في محاولتهم للتقريب بين طريقتكم وطريقة الرواية الجديدة في وصف الأشياء ، هذا التقريب الذي أدى بالضرورة إلى نتائج خاطئة في التحليل وخاصة فيما يتعلق في فهم قصص محمد.. ففي إحدى الدراسات حول – المملكة السوداء – يفهم أحد النقاد الرواية الجديدة على أنها تعنى – باكتشاف الواقع وحقيقته تبحث عن اللغز المخبوء في هذا الواقع ، الذي تحوله الرواية إلى نوع من السحر والإلهام ، فهي – أي الرواية الجديدة – في نظر هذا الناقد ذات فلسفة سرية وهذا الفهم للرواية لا يبدو صحيحاً ، لأن الواقع عند (ألن روب كرييه) ليس إلا مادة يهبها خياله لينقذها من العدم. وهذا تصور مثالي للمادة ترجع أصوله التاريخية إلى المثالية الموضوعية في الفلسفة اليونانية ، ينتج عنه ان أشياء الواقع ليست بذات دلالات . إنها موجودة فقط تفرض نفسها بوضوح لا يتعلق بالمعاني ، لأن المعاني ليست سوى إنتاج ثانوي لهذه الأشياء والشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان ان يمارسه عليها هو أن يتخيلها ، فهو يمعن بدقائق وتفاصيل الأشياء لكي يفقدها عمقها ، إذ ليس هناك شيء داخلي أو سر أو أفكار خلف سطح الأشياء التي لم تعد قناعاً للجوهر.ان (غرييه) يسخر من الحقيقة و- القلب الرومانتيكي للأشياء- وقوانينها، بل انه يرى أن ما يهم هو حركة الوصف وليس الأشياء الموصوفة. إن الكاتب كما يؤكد غرييه في كتابه – نحو رواية جديدة – يستطيع ان يبدأ من أي شيء لأن المهم هو الطريقة وليس المضمون . إن مهمته – باعتبار الوصف اختراعاً – هو تحطيم الأشـياء وإفساد خطوطها ، وجعلها غير مفهومة بل وإلى إخفائها تماماَ..الخ. يطالب غرييه القارئ في مقدمته رواية – منزل اللقاء العابر – إلى الانتباه ان أي تشابه في روايته إنما هو بتأثير الصدفة الموضوعية أو غير الموضوعية. كما أن (ألن روب غرييه) يلغي الوهم الشائع عن تأثير السينما في الرواية الجديدة من ناحية الوصف لأن ما يثير اهتمامه ليست موضوعية الكاميرا ، بل إمكاناتها في الميدان الذاتي والخيالي على حد تعبيره . كذلك فإن النقاد يسيئون الفهم أكثر حينما يحاولون ان يقرنوا (ألن روب غرييه) بـ”ـميشيل بوتور” ، الذي يختلف عنه اختلافاً كبيراً ، والذي يرى أن العمل الأدبي ، عمل له معنى ، وأن إلهام الكاتب هو العالم نفسه أثناء تغيره. وحتى عنوان كتابه ليس ترجمته ” بحوث في الرواية الجديدة” بل ( بحوث في الرواية ). لذا فإن مقارنة طريقتكم في الوصف بطريقة ألن روب غرييه تبدو مصطنعة ، لأن الأشياء في قصصكم ذات دلالات ومعان ترتبط بالوضع أو الحدث أو الشخصيات. ان غايتكم من الوصف ليس تحطيم الأشياء بل بناء الأشياء في علاقتها الجدلية بعناصر العمل الفني الأخرى، إلا ان ما يثير التحفظ هو ان يكون بناء الأشياء أكثر اتساعاً أو بروزاً من غيره خاصة في الحالات المفترضة التي تطغى عليها التصورات الشعرية السهلة . لذا فإن السؤال الذي يلح هو : ألا يؤدي الاهتمام الدقيق بهذه الطريقة الى خطورة تحويل الأشياء إلى مدركات حسية للشخصية يثقلها وهم القاص بالدلالات والرموز التي هي خارجية بالنسبة إلى العمل الفني؟.
محمود : تأتي أهمية وصف الأشياء في القصة من خلال كونها موضوعاً للتصور الإنساني , ووسيطاً لعلاقاته ، فهي تعيش مع الإنسان ، تكون موضوعاً لتصوراته ، ودقائق حياته وجزءاً من دلالات يومه وماضيه ومستقبله. فهناك في العالم الموضوعي أشياء ( مع استقلال وجودها الذاتي) تبهجنا رؤيتها ، أخرى تثير فينا الانقباض . إن الخاتم الذي يعرضه بائع الحلي في الواجهة الزجاجية لمخزنه يثير عدداً من الأحاسيس والذكريات بقدر عدد المارة انه قد يكون موضوع تصور رومانسي لشاب حديث الخطوبة ، أو لمحب مُوله وهذا قد يعني شيئاً مؤلماً لرجل شقي . صحيح ان للخاتم وجوده الفيزيائي، ولكنه حين يدخل في التصور الإنساني يحمل دلالات متعددة باختلاف العلاقات. فالشباك مصمم لأداء مهمة صحية وفنية ، ومصنوع من مواد معينة وعلى هيئة خاصة. ولكنه في تصور الصبي المشلول في ( الشباك والساحة ) لا يحتفظ بوجوده الفيزيائي البحث ، انه قد يعني عنده الإحباط والعجز عن التواصل مع الآخرين . وملعب المدرسة من وجهة نظر مهندسه ، ارض مستوية في طول وعرض معينين تصمم لأغراض رياضية ، وهي في تصور المدرب المكان الذي يمارس فيه مهنته وهوايته وربما يثير فيه الانبساط أو الاستياء لحكم علاقاته بمهنته التي كان الملعب حافزاً على تذكرها ، وموضعاً لإسقاطاته وهكذا.. ولكنها في تصور الصبي تعني صورة من صور ألإحباط أيضاً ، وتكون علاقاته مع الملعب في تضاد ، وحين توصف الأشياء بمعزل عن تلك العلاقات ، ويتخذ في وجودها الفيزيائي فقط أساساً لمادة الوصف في القصة ، فهي تنتهي إلى زخرف وضرب من ضروب المهارة الشكلية التي تقوم على الخواء الفكري ، وحين تملأ أيضاً – أكثر من حجمها – بهواء الرموز والدلالات القسرية الخارجة عن طبيعة العمل القصصي ذاته تنتقل من كونها خبرة إنسانية منظمة إلى ميدان لفك الألغاز والأحاجي ولاختبار الذكاء على حساب القارئ الذي يبقى حائراً ومتردداً بين ما يفهمه بنفسه من نص القصة وبين ما يطلب إليه أن يفهم .
كـريـم : ألا تعتقد معي أن الأشياء في ( يوم في مدينة أخرى ) أكثر لمعاناً من غيرها وأشد بروزاً؟.
محمود : ان ذلك يعود إلى الدلالات المبهجة للأشياء في (يوم في مدينة أخرى) على النقيض من (الشباك والساحة )فإن دلالات الأشياء تثير الإحباط والانكفاء النفسي، والانطباعات التي أحسستها في الأشياء تشير إلى اختلاف الدلالات بحكم علاقاتها المتباينة ، وهو ما ذكرته عن وصف الأشياء وكيفية تناوله.
محمد: الوصف الخارجي ، خاصية فنية تتيح لنا التوجه الحي نحو العالم. إنني أصف ما يقع إدراكي عليه، أو بالأصح ما يقع عليه إدراك الشخصيات ، لئلا يحدث الالتباس الذي أشـار إليه كريم ، وهو وهم إضفاء دلالات ورموز من خارج العمل الفني ، ما أصفه من علامات وإشارات ومدركات له حضور حي ، ثقيل في وعي الشخصية لذا فهو وسيلة لخلق وضع استثنائي متميز عن الواقع اليومي العرضي ، تتفاعل فيه ومعه شخصيات القصة .انه وضع يحقق نموذجيتها. تظهر الأشياء في القصة إلى جانب الشخصيات الإنسانية ، وتحدد علاقاتها بها في شكل التعارض والتوافق الذي أشرنا إليه سابقا. قد تكون الأشياء في القصة مع الإنسان أو ضده. لا تبقى الأشياء لدينا مجهولة ومهملة في الواقع إلى الأبد ، فهي تعترض توجه إحساساتنا نحو الواقع . إننا نصطدم بها أو تصطدم بنا ، ثم نقيم العلاقة معها على أساس موضوعي وذاتي . جذع شجرة هرم يذكرنا بيوم طفولي ضائع.. طريق خال بين النخيل يقودنا إلى حلم نباتي. مدخل قصة الأرجوحة , كمثال على ذلك، يحدد بإيحاءاته البيئية المحسوسة وجهة الحدث وإمكانية تطوره . كما ان الشوارع المهجورة والأشياء المهملة في قصة (الصرخة) تضعنا في صميم يوم كابوسي ممطر من أيام منع التجول أو أيام الحرب. النظرة الشيئية ترفض العمق في الأشياء وتنزع عنها أية دلالة. ان الإنسان لا يحس بأي تفاهم أو تعاطف مع الأشياء ولا يحس تجاهها بأي اتفاق أو اختلاف من إي نوع. ان الوجود الموضوعي للأشياء المستقل عن إحساسات الإنسان مغلف بسطح صلب ، وبدلاً من أن تكون القصة وسيلة للاتصال الإنساني أو الاقتراب من الأشياء ، تزيد النظرة الشيئية السطحية هذه المسافة الموضوعية وتعزل الإنسان. ان السهم الذي نرميه يرتطم بحائط صلب شاهق فيتحطم أو يرتد إلينا ويظل ما خلف الحائط مجهولاً ومستحيلاً . ولكن (ألن روب كرييه) يعتبر القصة اختراعاً. وهذا افتراض حسن . لنقل ان القصة عمل متخيل ، يبتكر قوانينه الداخلية التي توازي أو تتقدم أو تغاير القوانين الموضوعية للواقع ، بحيث يصبح الوجود الموضوعي للأشياء ليس موضوعياً في القصة، والحقيقي فيها ليس حقيقياً إلاّ بالنسبة لقوانينها الجديدة. كما ان الوهم لا يتعدى حدود القصة . القصة مجال للتجريب الوهمي والخيالي ، كما هو مجال لعكس الحقيقي والممكن ، مجال للممكن والخيالي، للواقعي والخيالي الكامن في الشيء الواقعي .
الشكل والعلائق المعقدة
كـريـم : يقول بريخت إن العلاقات المتشابكة المعقدة يمكن تبسيطها فقط عن طريق الاستعانة بالشكل ومع ذلك فإن التوصل إلى هذا الشكل يكون ممكناً عن طريق تغيير اتجاه الفن اتجاهاً كاملاً ، فهل نستطيع ان نقول إن وصف الأشياء في قصصكم هو إحدى الطرائق التي تدخل ضمن الشكل في توضيح العلاقات المعقدة في القصة القصيرة ، التي تبدو مقولة بريخت اشد انطباقاً عليها بحكم طبيعتها الخاصة؟.
محمد: هذا السؤال يتيح لنا أن نتحدث عن الشكل بصورة أساسية. سنعطي أهمية للشكل دون ان نبالغ في الشكلية، ذلك عندما يكون الشكل دافعاً لتوسيع آفاق البناء القصصي للتعبير عن تعقيدات العصر. وهذا يضعنا أمام المهمة الأكثر صعوبة ، التجديد في الشكل الفني للقصة القصيرة ، أي تجديد التقاليد الفنية للموروث الأدبي للقصة القصيرة ، أقصد توسيع محدودية القالب الفني ، والتجديد في حدود الإمكانيات التي تشمل تقاليد النوع المتعارف عليها : البداية والنهاية ، وما بينهما، الحدث والشخصية المعقدة ، الزمان والمكان ، الإيجاز والتكثيف والغنائية. صحيح اننا مازلنا نقرأ تشيخوف، وهمنغواي وألان بو بمتعة ، وتمعن أحياناً ، لنقتني الأصول الفنية لصنعة القصة القصيرة عندهم ، إلاّ اننا نلمس حقيقة إبداعية جوهرية لا تنفصل عن أعمالهم ، تلك هي روح التعبير الصادق عن تعقيدات العلاقات الإنسانية . ان احتفاظ هذا النوع بمكانته بين الأنواع الأدبية في ظروف أدبية متغيرة ، كظروف تغير الرواية ، لا يرجع إلى محافظته الشديدة على أصوله الفنية وإنما على قدرته الذاتية على التجدد امتثالاً لتلك الروح. ورغم ان التجديد ينحصر بصورة أساسية في الشكل ، إلا انه يجسّد الإمكانية المتجددة للشكل في التعبير عن تجربة الكاتب الذاتية ، وعن التجربة العامة للناس . بذلك يصبح الشكل بحثاً واكتشافاً لوسائل أكثر استجابة لحقائق الواقع الخارجي. والوصف كإمكانية شكل في إظهار ما هو ملموس في التجربة الذاتية والتجربة العامة ، يفوق نظيره الباطني الذي يعتمد على تيار الوعي وتداعي المشاعر والأحاسيس والذكريات ، بما يوفره من مستويات نظر متعددة تكشف عن مستويات متعددة للتناقضـات الأساسية في الواقع المادي . وبالإضافة الى هاتين الوسيلتين نذكر إمكانيات الخيال الشعبي ورموزه ، والفنون الأخرى كالسينما والرسم والتصوير الفوتوغرافي ، لإغناء شكل القصة وتوسيع طاقاته التعبيرية.
محمود: عندما ذكر بريخت الشكل باعتباره وسيلة مؤثرة في تبسيط العلاقات المتشابكة للواقع فانه لم يرد به معناه المتداول الشائع كنقيض لمضمون العمل الفني، ولكن باعتباره تجسيداً لسيطرة الفنان على مادته ، وقدرته في تنسيقها والتعبير عنها. فالشكل- وقد أسيء فهمه كثيراً – ليس أمراً طارئاً على العمل الفني ، بل هو الذي يجعل منه عملاً فنياً ناجحاً. وقد أدت الأعمال القصصية والروائية التي كتبها كبار الكتاب إلى إيجاد قناعة لدى الآخرين بثبات شكل معين للقصة القصيرة لا يمكن الابتعاد عنه إلا بنسب معينة موصوفة . وإذا كان الشكل الذي اتخذته القصة القصيرة المعاصرة لا يزال حيوياً إلى يومنا هذا، في التعبير عن مادة الواقع، فإن أحداً منا لا يستطيع ان يتنبأ كيف سيشكل قاص المستقبل مادته ليكون عمله مؤثراً في ضمير معاصريه. إن البحث عن أشكال جديدة تتميز بالقدرة على استيعاب دلالات الواقع المتطور ، هو مصدر إغناء للواقعية في الرؤية ، واللغة والتكنيك والمنهج . إن الشكل التقليدي للقصة القصيرة قد فقد كثيراً من حيويته في استيعاب علاقات الواقع الجديد ، ولهذا يكون البحث الدائب عن أشكال قادرة على تصوير ذلك الواقع ضمن ما يريد بريخت ان يقوله عن تبسيط العلاقات المتشابكة المعقدة عن طريق الاستعانة بالشكل . لقد حققت القصة القصيرة المعاصرة قيماً أسلوبية للتعبير عن الواقع المتغير في عصرنا. فقد اتخذت من الشكل بالفعل وسيلة لتبسيط معاني الواقع وإيضاح دلالاته. انها مثلاً تستخدم اللغة استخداماً شعرياً، وهي بذلك تقترب من روح القصيدة ، وهي تسقط الأساطير والتاريخ على الواقع الاجتماعي لكشف جوهر علاقاته وتستفيد من الفولكلور والروح الشعبي. وتلجأ إلى الفانتازيا لتصور التغير العنيف الذي أصاب العالم ، وتعتمد على البناء الملحمي لتشكيل وحدة القصة القصيرة باتخاذ المقاطع أساساً لتلك الوحدة ، كما تستخدم المونولوج الداخلي للتعبير عن الإحباط في مواجهة الواقع في الغالب ، وتلجأ إلى تصوير الخارج اعتماداً على الرؤية البصرية كإحدى الطرائق التي تدخل ضمن الشكل في إيضاح العلاقات المعقدة .
كـريـم : أعتقد أن هناك أسئلة وجوانب عديدة لم تطرح بعد، سنكتفي بهذا القدر من الحوار المفتوح ، آملين أن تكون هناك لقاءات أخرى تثيرها عطاءات جديدة ، وشكراً.