قرأت ما كتبه السيد زهير الفتلاوي يوم 18 تموز في موقع كتابات الموقر بشان البرنامج التلفزيوني الذي اعدته القناة العراقية لمناسبة 14 تموز 1958 .
السيد الفتلاوي يأخذ على السيد طارق حرب تهجمه على الزعيم عبد الكريم قاسم في البرنامج المشار اليه ويهدده باقامة دعوى قضائية عليه بتهمة التهجم والتشكيك بنزاهة الزعيم .
لقد عاصر السيد طارق حرب الزعيم عبد الكريم قاسم وكان من منتسبي الدائرة القانونية في الجيش , وله رأيه الخاص في القائد الذي عمل بامرته باعتباره القائد العام للقوات المسلحة . يبدو مما كتبه السيد الفتلاوي انه لم يعاصر الزعيم قاسم وان رأيه مبني على السماع , كما انني لم يطرق سمعي سابقا وجود تنظيم يطلق عليه ( التيار القاسمي الديمقراطي ) .
معرفتي بالمحامي طارق حرب تتحدد من خلال اطلاعي على ما يدلي به من آراء في بعض المسائل القانونية , التي اتفق معه في بعضها , واخالفة في البعض الآخر , ولا توجد أية صلة أخرى بيننا , وانا لا اعرف زهير الفتلاوي ولم اسمع باسمه من قبل , أما لماذا ارد على مقال كتبه شخص لا اعرفه يرد فيه ويهدد شخص آخر لا علاقة لي به , فالسبب هو الزعيم المرحوم عبد الكريم قاسم , الذي عاصرته والتقيت به وكلمته ولمست بنفسي انجازاته واخطائه التي كانت السبب في مقتله بطريقة لا يستحقها , ما سأقوله هو للتاريخ وليس دفاعا عن أحد .
عبد الكريم قاسم ليس من الاشخاص الذين لا يختلف عليهم اثنان كما ذكر السيد الفتلاوي , لأنه سياسي , والسياسي له مؤيدون ومخالفون ومعارضون , اما كونه وطني مخلص للعراق وللعراقيين فهذا امر لا يختلف عليه اثنان , ولكن كونه وطني ومخلص لا يعني انه لا يخطأ , لقد ارتكب عبد الكريم قاسم اخطاء دفع هو ثمنها كما سنرى .
عبد الكريم قاسم هو ليس مؤسس الجمهورية العراقية كما يعتقد الفتلاوي , ان الذي اسس الجمهورية العراقية هم اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحراركلهم , الذين عرضوا حياتهم للخطر وقرروا في اجتماعاتهم السرية اسقاط النظام الملكي واقامة الجمهورية العراقية , هو أحد مؤسسي الجمهورية وليس المؤسس الاوحد .
عبد الكريم قاسم ليس مؤسس تنظيم الضباط الاحرار , بل هو من المنتمين للتنظيم بعد تأسيسه باكثر من سنة , ان مؤسس تنظيم الضباط الاحرار هو المقدم رفعت الحاج سري الذي تخلى عن التنظيم ثم لم يعد يلتقي بالضباط الاحرار لأسباب شخصية , وكان الزعيم الركن (محي الدين عبد الحميد) هو أول رئيس للتنظيم بحكم القدم العسكري , ولما انتمى الزعيم الركن عبد الكريم قاسم للتنظيم بواسطة المقدم وصفي طاهر تولى رئاسة التنظيم بحكم القدم العسكري أيضا , كونه اقدم من الزعيم الركن محي الدين , وليس لأي سبب آخر .
المنفذ الحقيقي لأنقلاب 14 تموز 1958 هو العقيد الركن عبد السلام محمدعارف آمر الفوج الثاني اللواء العشرين , الذي دخل بغداد على رأس اول وحدة عسكرية فجر الاثنين الرابع
عشر من تموز , بموجب خطة وضعها هو بنفسه ونفذها , واذاع بنفسه من اذاعة بغداد البيان الاول لما اطلق عليه ثورة 14 تموز , وقد كان الزعيم الركن عبد الكريم قاسم في ذلك الوقت بالذات يتابع ما يجري في بغداد من مقره في ( منصورية الجبل ) حيث يتمركز اللواء الذي يقوده وهو اللواء التاسع عشر , وذلك بموجب اتفاق جرى بينهما في الليلة السابقة .
لقد تحرك اللواء التاسع عشر بقيادة عبد الكريم قاسم من مقره الذي يبعد عن بغداد بأكثر من 100 كيلومتر باتجاه بغداد , وذلك بعد نجاح الانقلاب واذاعة البيان الاول ومقتل العائلة المالكة ونزول ابناء الشعب الى الشوارع تأييدا لما جرى ووصل بغداد ظهرا .
أقول للتاريخ , في يوم 14 تموز 1958 تحرك الزعيم الركن عبد الكريم قاسم صباحا على رأس لوائه من مقره في (منصورية الجبل ) باتجاه بغداد وهو يتولى منصب آمر اللواء التاسع عشر في الجيش العراقي , ووصلها ظهرا وهو يتولى منصب رئيس وزراء الجمهورية العراقية .
تولى الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئاسة الوزراء كونه اقدم ضابط في تنظيم الضباط الاحرار بعد ان اتفق مع العقيد الركن عبد السلام عارف على ان يكون نائبا له ووزيرا للداخلية ليس لكونه يلي قاسم بالقدم العسكري ولكن لدوره المتميز في تنفيذ الانقلاب . لقد تم هذا الاتفاق بينهما بمعزل عن اللجنة العليا للضباط الاحرار , وتم اذاعته من اذاعة بغداد من دون علم اللجنة العليا للضباط الاحرار .
لقد تم الاتفاق بين قاسم وعارف على تجنب تشكيل مجلس لقيادة الثورة يضم اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار, على الرغم من رغبة الضباط الاحرار بان تكون القيادة والحكم جماعيا , لكن عبد الكريم قاسم أصر على عدم تشكيل مجلس لقيادة الثورة بدعم من عبد السلام عارف , لكي يتقاسما القيادة بينهما , وقد تم ذلك بالفعل , لقد شكل هذا الموقف أول شرخ في مسيرة النظام الجمهوري الجديد , كما ان استبعاد الضباط الاحرار من المشاركة في اتخاذ القرارات العليا للدولة عكس بصورة جلية بوادر الروح الدكتاتورية لدي كل من قاسم وعارف , وقد دفعهما ذلك الى تعيين اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار في مناصب عسكرية ومدنية حسب اختيارهما وبموجب رغبتهما من دون اخذ رأي الضباط انفسهم .
عندما نشب الخلاف بين قاسم وعارف بعد مرور اقل من ثلاثة اشهر على سقوط النظام الملكي , تمكن قاسم من اقصاء رفيقه عارف و الانفراد بالسلطة لوحده , ليصبح بذلك الزعيم الأوحد للعراق , وهكذا انقسم الشعب العراقي الى مؤيد للزعيم عبد الكريم قاسم ومخالف له , ومن الانصاف القول ان مؤيدي قاسم كانوا هم الاكثرية الساحقة , من دون التقليل من حجم مخالفيه وتأثيرهم في المجتمع .
هكذا جعلت الظروف من عبد الكريم قاسم دكتاتورا رغما عنه , فاستهواه ذلك واخذ يتصرف وكأنه هو الذي قام بالثورة لوحده , وهو الذي اسس الجمهورية , وبذلك تبخر دور كل الضباط الاحرار وزال تأثيرهم , واصبح حكم العراق برمته بيد الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم , من دون ان يدرك ان كونه الزعيم الاوحد للبلاد يعني انه يتحمل كل السلبيات التي حدثت في البلاد , كمفتل الملك والعائلة المالكة , وسحل الجثث في الشوارع , ومقتل الوزراء الاردنيين
المتواجدون في بغداد , كما ان الضباط الاحرار الذين وقفوا معه في خلافه مع عارف انتابهم شعور بان زميلهم عبد الكريم قاسم اصبح بالفعل زعيما اوحدا , وان كونه عضوا في مجموعة من الضباط الوطنيين الاحرار الذين نذروا انفسهم لتغيير النظام الملكي المرتبط بالغرب وتأسيس جمهورية عراقية ديمفراطية قد انتهى , وان حكم البلد صار بيد شخص واحد بدلا من حكم جماعي . ان ما يعزز هذا الشعور هو ان عبد الكريم قاسم اخذ يعمل للتخلص من زملائه الضباط الاحرار فاحال بعضهم الى التقاعد , ولجأ بعضهم الى دول عربية واجنبية , ولما اشتد الخلاف بينه وبينهم تطور الامر الى تمرد وتآمر وصل الى حد اعدام عدد من خيرة الضباط الاحرار , وهو تصرف يتحمل وزره سوية كل من الحاكم والمحكوم بالاعدام , اي اخوان الامس , الذين تشتتوا وتشرذموا , فاستغل ذلك بضعة من البعثيين المدنيين وعدد لا يتجاوز اصابع اليد من العسكريين ليسقطوا نظام حكم له شعبية طاغية ومعارضة قوية , فلا النظام تمكن من الدفاع عن نفسه ولا المعارضة التي كانت يوما ما جزء من النظام تمكنت من استلام الحكم . وهكذا قتل الفريق الركن عبد الكريم قاسم بطريقة لا يستحقها وكان بامكاته ان يتجنبها لو احسن التفاهم مع زملائه الضباط الاحرار , لقد مات عبد الكريم قاسم وكان جميع رفاقه السابقين من اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار مشتتين ما بين متقاعد و هارب ولاجيء خارج العراق ومحكوم بالسجن ومعدوم عدا اثنان او ثلاثة فقط .
لو تكلمنا عن النزاهة بغض النظر عن السياسة لقلنا ان عبد الكريم قاسم كان من أنزه الحكام العراقيين شأنه شأن الملوك فيصل الاول وغازي وفيصل الثاني والرئيسين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف , وهذا الكلام موثق , رحمهم الله تعالى جميعا وغفر لهم انه هو الغفور الرحيم .
أقول للتاريخ ان الحاكم الذي له شعبية طاغية وهو ميت هو الفريق الركن عبد الكريم قاسم الذي قصفته طائرات الانقلابيين وهو في وزارة الدفاع من دون ان يتحرك لوائه ( اللواء التاسع عشر ) الذي كان متواجدا في معسكر الرشيد لغرض حماية النظام , وفي ذات الوقت اقول أنه هو الحاكم الوحيد الذي ذكرت بشأنه حكايات وقصص كثيرة غير صحيحة معه وضده .
انا لم يسبق لي ان اطلعت على نشوء تنظيم يحمل عنوان ( التيار القاسمي الديمقراطي ) واذا كان هذا التيار قائما , فعلى قادته عدم اقامة دعوى على المحامي طارق حرب , بل عليهم الرد على الاتهامات التي وجهها للزعيم قاسم واثبات خطأه بالدليل القاطع , وهذه هي الطريقة الديمقراطية التي ينبغي ان ينتهجها هذا التيار الديمقراطي .
اقول للسيد زهير الفتلاوي ان عبد الكريم قاسم بشر معرض للخطأ والصواب , ومن محاسنه انه اعترف هو شخصيا باخطائه امام المقربين منه , وكان يبكي عندما يرد ذكر زملائه في اللجنة العليا للضباط الاحرار الذين خالفوه وتآمروا عليه ووقع على اعدامهم ملقيا باللوم عليهم وعلى نفسه .
كلما كبر شأن اي شخص تكون اخطائه كبيرة , وكلما اعترف انسان باخطائه فيعنى ذلك انه سيتجنبها في المستقبل , وكل من يعتبر نفسه لا يخطأ فذلك يعني انه لا يعرف الفرق بين الخطأ والصواب .
عهد الفريق الركن عبد الكريم قاسم صار جزءا من تاريخ العراق الحديث , ولا يزال عدد من رفاقه احياء يرزقون , خذوا منهم ما تريدون قبل رحيلهم ولا تعتمدوا على اقاويل تعتمد على العاطفة فقط .
رحم الله كل من ساهم في استقلال العراق , و بناء العراق , و نهضة العراق , ووحدة العراق , وازدهار العراق , والدفاع عن العراق , الأحياء منهم والاموات .