{إستذكارا لدماء الشهداء التي ستظل تنزف الى يوم القيامة، من أجساد طرية في اللحود، تفخر بها أرواح خالدة في جنات النعيم، أنشر موسوعة “دماء لن تجف” في حلقات متتابعة، تؤرخ لسيرة مجموعة الابطال الذين واجهوا الطاغية المقبور صدام حسين، ونالوا في معتقلاته، خير الحسنيين.. الشهادة بين يدي الله، على أمل ضمها بين دفتي كتاب، في قابل الايام.. إن شاء الله}
شغل الشهيد عبد الكريم الجدة، منصب آمر الإنضباط العسكري طيلة حكم الزعيم الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي يدين له بحب غامر وولاء مطلق، واصفا إياه: “جاء من وراء ملايين السنوات الضوئية”!
لم يبرحه في وقت الشدة، لحظة تعطلت أول طائرة قاصفة، من بين الثلاث اللواتي أطلقهن عبد السلام عارف، فتولت الثانية، إمطار مقر الزعيم بوابل من حمم، ما زال العراق يدفع ثمنها حتى هذه اللحظة.
الجدة رجل ودود، بقدر ما هو عسكري حازم، يتغزل بشخص قاسم: شعره سرح ناعم، دليل أكيد على انه عربي أصيل، ذو جبين مقوّس كالهلال، وتلك ليس من صفات العرب الأقحاح؛ لذا يرى: “على العرب الآن، إعتباره قائداً وقدوة لهم”.
صباح جمعة قارسة البرد، تصادف يوم 8 شباط 1963 (14 رمضان) حصلت الحركة انقلابية ضد حكم الزعيم قاسم، قادها حزب البعث عميلا لقوة إقليمية متهورة، خدمت أعداء الدول العربية، وخلخلتها واحدة، لصالح الأجنبي.
شارك في الإنقلاب عسكريون، منهم: عبد السلام عارف واحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي، يقودون عدة مئات من البعثيين المدنيين، يحملون اسلحة خفيفة، نوع “بورسعيد” مصرية الصنع! هاجموا مقر وزارة الدفاع، تساندهم دبابات، تنقل ضباطا، من معسكر “ابو غريب” وطائرات انطلقت من قاعدة “الحبانية” يقودها طيارون بعثيون، مثل المقدم الطيار منذر الونداوي والرائد الطيار محمد جسام الجبوري.
لحظة إشتعال الفتيل البعثي؛ بزيت إقليمي، لم يكن الزعيم عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع، الا انه وقع في خطأ عسكري جسيم، حين قرر الذهاب من منزله الى هناك؛ بقصد قيادة العمليات المضادة التي تهدف الى سحق المهاجمين,ناسيا انه لم يرتب وضعا حصينا، ولا ينتظر مددا يمكنه من الحفاظ على تماسكه بوجه المهاجمين المسعورين؛ فما بالك بسحقهم، الذي بات محالا!…
هذا القرار من اكبر الاخطاء التي اتخذها؛ لانه ادت الى حصره داخل الوزارة.. فردا لوحده، محاطا ببضعة محبين، لا يعني وجودهم اية ارجحية بالقياسات القتالية.
وبرغم قلة العدد والعدة، الا ان معارك قوية، جرت، طيلة ساعات مساء وليلة الثامن على التاسع من شباط، خارت بعدئذ قوى المدافعين عن مقر قاسم، وهم بضعة أفراد ليس إلا.
بدأت القوات المدافعة عن الوزارة بالتقهقر؛ خصوصا بعد مقتل الزعيم عبد الكريم الجدة.. آمر الانضباط العسكري وقائد القوة الموالية لقاسم.
وبهذا جاد الجدة، بنفسه، ذودا عن العراق، ممثلا بشخص الزعيم، إذ قاتل برجولة منقطعة النظير.. شجاع، صلب هادئ متماسك وقور.. يقدر حجم المسؤولية، في حماية العراق من البعث والطامع الأقليمي بثرواته، التي بلغت حدها النهائي، هذه اللحظة، لكنه تصرف بإعتداد وإحترام لزعيمه وذاته؛ فإستشهد بين يدي العراق، دفاعا عن ثورة الفقراء، التي داهمها الشرهون للسلطة، بإسقاط رمز الجمهورية.. عبد الكريم قاسم، الذي ما زال العراق كله يتهاوى.. متواصلا في الهشاشة، تهافتا، حتى هذه اللحظة، من دون ان يدرأ أحد ما آفة الحطام!!!