مات عبد الستار ناصر في المكان الذي لم يتمنى أن يموت فيه ، تلك الغربة المرتدية لمعطف الثلج والنأي والتي لايهدأ منها سوى دخان السيكارة وثمالة ليل وكتابة قصة والقهوة التي تعدها بحنان رفيقة عمره ( هدية ).
مات عبد الستار ناصر المرتهن بالجرأة والعبث الوجداني الموسوم بمتغيرات حياته ، في ذلك الوصف الحياتي لكل ماقدم وأنتج في اختصار غريب وصف فيه حياته في لقاء تلفزيوني قديم ( تها بها ) وهي عبارة متداولة في الحكي المجتمعي لايعرف أصولها وتعني استخفافا بشيء ولاهذا ولا ذاك ….
تلك حياته هذا السارد الغريب لرؤى القص والرواية والمثقف النهم في القراءة والمتابعة والكتابة النقدية ، لكن روعته كمنت في غزارة ما كان ينتج وبالرصانة والانتشار ليؤسس لمجده صورة واعية عن الثقافة العراقية في جانبها السردي وليكون عبد الستار ناصر الصورة الاكثر قرباً للادب العراقي في تحولات أمكنته وأنشاره وقدرته على التواصل مع البيئة من الطاطران المحلة التي ولد فيها الى امسيات صباحات الجمعة والدومينو في طاولات مقهى حسن عجمي مرورا بالهروب من الأخطاء الحياتية ومواقفها وانتهاءً بغربة عمان وعوزها والازمات المرضية وأنتهاءً بالمنفى المتأخر قبل عامين عندما حمل حقائبه ونوارسه ورفيقة عمره ليحط الرحال في كندا.
آخر مرة رأيته هو والروائية ( هدية حسين ) قبل 5 اعوام في مقهى الروضة ، وانتقلنا لامكنة من المؤانسة والسمر انا وهو والشاعر محمد مظلوم في نادي نقابة الصحفيين في دمشق وكانت ليلة جميلة اشبعنا فيها عبد الناصر بحكاياته ومؤانسته وصراحته وغروره ، ليعود الى عمان ويكتب مقدمته الرائعة لروايتي ( حمام نساء في أور ) والصادرة عن دار فضاءات ، وأعترف أن مقدمة الفقيد لروايتي منحتها وضوحا آخرا ونافذة تقرب مسافة الفهم والمودة بينها وبين قارئها.
اليوم عدت ثانية الى قراءة المقدمة مع دمعة تجمع اغتراب موت المثقف العراقي في هذا الشتات المتباعد ، هو وهدية حسين وكريم الزيدي وهادي ياسين وعيسى حسن الياسري ومحمد النصار وسعد جاسم في كندا وأنا ونجم والي وعباس خضر وفاضل العزاوي وخالد الراوي وكريم الاسدي وحامد حميد غريب وأيمان محمد في المانيا ، وغيرنا المئات في شتات تتناوله اختام الجوزات والخرائط وبطاقات اللجوء والجنسية المزدوجة.تلك قدرية المنفى العراقي وهجراته التي لاتشابه ابدا هجرات البط الصيني أو السنونو القادم من ثلج مدن البلطيق الى دفء اهوار الجنوب العراقي .
موت بحجم الدمعة ، بحجم قصة يكتبها الراحل عبد الستار ناصر في غرائبية جنونه ولغته الشاعرة المتدفقة حبكة وحرفة وجنونا ، ولكنه رحل الآن ليبقيَّ لنا تراثا من التميز في تناول الحكاية بطريقة مبتكرة بتفاصيل تجارب الحلم والعبث والثمالة والحب والتسكع والفاكهة.هذا الموت الخرافي انتهى بصمت ودون ضجيج مع مبدع آخر يرحل بعيدا عن الطاطران واقداح الشاي في حسن عجمي ، وطاولات نادي اتحاد الادباء في ساحة الاندلس.
ذهب بعيدا وهو يحمل اوجاع نوبات القلب والدماغ وسعال السكائر وحرقة كؤوس الحلم التي كان يقول عنها انها وحدها من تقلل الم الغربة وتجعل العراق قريب اليَّ.
مات عبد الستار ناصر…السارد الواعي لحبكة القصة ، والمثير دوما في اغراء عناوينه ليترك لنا في لمعان عينيه ووسامته اثرا جميلا من حكايات تشبه الف ليلة وليلة في عولمة هذا العالم منذ ستينات القرن الماضي وحتى لحظة اغماضته الاخيرة.والآن وقد صارت الحكاية العراقية بدون عبد الستار ناصر ، يحق لنا أن ندونَ على اجفان المحبة القصائد التي حروفها دمعة اخر لقاء معه لنسجل العرفان والحنان والذكرى والحب لهذا السارد الجميل ونتمنى له نعشا يليق به تتكرم فيه الدولة العراقية ممثلة بمجلس الوزراء لتنقله من موت المنفى والمهجر الى موت الوطن ، فحتما في قدرية الانسان الاخيرة ليس هناك موتٌ اجمل من موت الوطن ..والآن مات عبد الستار ناصر وعلى العراق ومحلة الطاطران أن ينحبان……!