عودة إلى استشهاد سلام عادل
حين نشر آرا مقالته تلك اتصّل عبد الستار الدوري بي هاتفيًا من لندن مستفسرًا، هل حقًا هذا ما كتبه آرا؟ أَلَمْيتعرّف على عليّ صالح السعدي في منزلي؟ فمن أين جاء بحكاية رصاصة الرحمة، التي ستوقف الآلام عن الرجل؟ قلت له ربّما تكون الذاكرة قد تحرّكت، خصوصًا بحكم الشيخوخة، وهو استحقاق العمر، فقد يكون هناك نوع من التداخل بشأن رصاصة الرحمة، ومن أطلقها، وقد يكون الزمن غيَّرَ المَشاهِدَ والصُّور وتداخلت فيه الأحداث، وهي أمور طالما تحدث بحكم العُمر.
وقد حاولت في الأسئلة الموجهة من طرفي إلى آرا خاجادور (72 سؤالًا)، أن آتي بالإشارة إلى محسن الشيخ راضي وروايته في السؤال رقم 35 والذي ورد فيه: “راجت إشاعات كثيرة حول استشهاد الرفيق سلام عادل، ولعلّها أكثرها انتشارًا قيام محسن الشيخ راضي، بالإشراف على تعذيبه عند اعتقاله، هل لديك معلومات؟ وما هي أقرب الروايات إلى الواقع؟ وكيف يمكن فحص دقّتها؟ ماذا تقول؟”، لكن معظم تلك الأسئلة ظلّت بلا إجابات بحكم تدهور وضعه الصحّي وتضبُّب الذاكرة عنده.
وفي اللقاءات الأخيرة مع آرا خاجادور نهاية العام 2016 والعام 2017، أدركت صعوبة الخوض معه في تلك التفاصيل، لذلك لم أرغب في العودة إليها، بحكم الشيخوخة، وازدحام الأحداث في ذاكرة متعبة وحاضر مُوجِع، بل وقاسٍ كان يعيشه آرا خاجادور، لاسيّما شعوره بالخيبة والخذلان، وهو ما عبّر عنه قبل فترة من ذلك التاريخ في كتابه الموسوم “نبض السنين“، دار الفـارابي، بيرو، ط1، تموز/يوليو 2014.
وكباحث لم أقصد سوى البحث عن الحقيقة من الإشارة التي وردت على لسان آرا أو الشيخ راضي أو الدوري، وليس تخطئة أحد أو تأييد آخر، أو قبول هذه الرواية أو رفض أخرى، بل تابعتُ المعلومة من مصادرها المختلفة، وهو ما دفعني لإعادة قراءة كتاب السفير المصري في بغداد “أمين هويدي – كنت سفيرًا في العراق“، مركز دراسات الوحدة العربية، تقديم خير الدين حسيب، بيروت، ط2، 2017، لتدقيق التواريخ والمعلومات، حيث كان علي صالح السعدي يزور القاهرة في (19/2/1963)، وعاد منها يوم 26 مساءً أو 27 شباط/فبراير صباحاً، وكان سلام عادل قد اعتقل يوم 19 شباط/فبراير واستُشهد يوم 23 شباط/فبراير، أي أنه قُتِلَ تحت التعذيب بعد أربعة أيام. وبمراجعة هذه التواريخ يمكن الاستدلال على الحقيقة وإعادة النظر في بعض ما قيل وما نُسِب.
الضحية والجلّاد
ويعترف حازم جواد في مقابلته مع غسان شربل، بأنه حاور سلام عادل (حقّق معه)، وهو حوار بين الضحيّة والجلّاد، فقد حاول أن يغمز إلى بعض مواقفه، مثيرًا الكثير من الريبة والشكّ والتناقض حوله. وقد جئت على ذلك بالتفصيل في كتابي المشار إليه عن سلام عادل، مقدّمًا قراءةً تحليليّة مغايرة، ومفسّرًا ما قاله سلام عادل من دوافع وطنيّة حاول جواد القفز عليها، بل تشويهها على نحوٍ مغرض، وهو إغراض سبقه إليه هاني الفكيكي في كتابه “أوكار الهزيمة – تجربتي في حزب البعث العراقي”، دار رياض الريّس، بيروت، 1993، وسمير عبد الكريم (اسم وهمي) في كتابه بعنوان “أضواء على الحركة الشيوعيّة في العراق”، 5 أجزاء، دار المرصاد، بيروت 1978 – 1979، (وهي دار وهميّة كذلك) بخصوص الرفيق فهد. (والكتاب حسبما يبدو مؤلّف من دائرة المخابرات والقسم الخاص بمكافحة الشيوعيّة).
وفي الوقت الذي كان جواد يُطالب سلام عادل بالاعتراف، لاسيّما على التنظيم العسكري، كان الأخير يُلقي عليه دروسًا في معنى الوطنية والحكم الوطني، وهو ما يكشف الأسباب الكامنة وراء نشر ذلك الحوار (التحقيق)، بعد عقود من السنين، كان فيه لسان حازم جواد معقوداً، وإذا به ينطلق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003.
الدوري بين بغداد ودمشق
يوم تقرّر نقل الدوري إلى بغداد، أقامت له السفارة احتفالاً توديعيًّا (1972)، وتقرّر أن نذهب ثلاثة شخصيّات للمشاركة في وداعه، هم: آرا خاجادور (ممثل الحزب في مجلة قضايا السلم والاشتراكيّة) ومهدي الحافظ (الأمين العام لاتحاد الطلاب العالمي، وكان قد أصبح عضواً في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي) وكاتب السطور (رئيسًا لجمعيّة الطلبة العراقيين). وهي المرّة الأولى التي نشارك فيها بشكل رسمي في احتفالات السفارة العراقيّة بعد حملة القمع التي تعرّض لها الشيوعيّون في بغداد 1970 – 1971، ولاسيّما بعد اعتقال ثابت حبيب العاني (أبو حسّان)، حيث نظّمنا وفدًا عربيًّا كبيرًا أوكلت رئاسته لي احتجاجًا على اعتقال العاني، وحينها لم نترك السفارة حتى قابلَنا السفير (محسن دزئي)، الذي وعَدَ أنه سينقل رسائلنا واحتجاجاتنا إلى وزارة الخارجيّة والرئيس أحمد حسن البكر والملّا مصطفى البارزاني.
مفاجأة من العيار الثقيل
في احتفال التوديع، بُعيد احتفال آذار/ مارس المشار إليه، بانتهاء عمل الدوري وذهابه إلى بغداد، حدث ما لا يصدّق، ففي غمرة النشوة والسخط، جاء الدوري إلى طرفنا وكنّا واقفين، ووضع يده على كتف مهدي الحافظ مخاطبًا إيّاه (ربما بصوت مسموع): سأذهب إلى بغداد وأقف في ساحة التحرير وأقول أن هذه الزمرة (البكر- صدام)، “عملاء“، الأمر الذي عرّضنا للإحراج، وقد حاولت السيّدة سهام الشگرة زوجة الدوري تدارك الموقف، ولهذا قرّرنا الانسحاب دفعًا لأيّة تداخلات يمكن تفسيرها سياسيًّا.
في الطريق من مقر السفارة العراقيّة، إلى منزل آرا خاجادور (براغ – 6 – منطقة ديفيتسه)، سألني مهدي الحافظ: هل لديك تفسير عن الذي حصل؟ فأجبت:كنت أتوقّع أن لا يعود الدوري إلى بغداد، ولكنني لم أتوقّع أن يصدر عنه مثل هذا الموقف ونحن في احتفال رسمي، وهو ما يعزّز اعتقادي من أنه لن يعود. وكان آرا يصغي إلى ما أقوله، فسألني: لماذا؟ قلت له: لأنه تمّانتخابه من المؤتمر القومي لحزب البعث (سوريا)، عضوًا في القيادة القوميّة، وربما سيلتحق بموقعه الجديد ويتوجّه إلى دمشق بدلًا من بغداد.
وكانت تلك معلومات قد وصلتني من بعض الأوساط الخاصة من أصدقائي البعثيين (سوريا)، الذينتربطني بهم علاقات وثيقة، كان البعض منهم يسرّ لي بحكم الثقة. لكن الدوري عاد إلى بغداد ولم يحدث له أيّ شيء، ثمّ عيِّن سفيرًا للعراق في كوبا، وبعض دول أمريكا اللّاتينيّة، وكان يتردّد بين حين وآخر إلى براغ، ثم أصبح سفيرًا فيها العام 1976. وتلك مفاجأة أخرى!
(يتبع)