سألنا مرةً عرفان فقيه، أستاذ الأدب العربي في جامعة بومباي عن أجمل بيت قيل في الشعر العربي، فقال إنه لطرفة، وأنشد في تلك القاعة المهيبة التي يزيد عمرها على المائتي سنة يقول:
لخولةِ أطلالٌ ببرقة ثهمدِ
تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ
وكنتُ كلما تذكرتُ شاعراً مجيداً ذا قدرٍ رفيع ممن نبا بهم الدهر أو جافاهم الخلان، كرامبو ولوركا وناظم حكمت وأبي علي البياتي، وعبد الزّهرة زكي، أعود إلى الغلام القتيل، طرفة إبن العبد، فقد عاش ومات شاعراً. وهو الذي وقف ولم يكد يبلغ السابعة من عمره على دراما الحياة والموت، وصاغها لنا في ثلاثة أبيات لا تزيد، وكأنه قد صاغ مصير كل حياة ونَفَس. يا لَجمال هذه القُبَّرة، مم تخافين يا عزيزتي؟ فالصيادُ رفع الفخ، وولى؟ نقّري، ونقري، ونقري. أنت مثلي تماماً، فلا بد من أن يصطادنا الموتُ، كما إصطادتنا الحياة.
لا تستوي الحياة مع الشعر، وكل ما في الأمر أن الملك الرخيّ لم يعجبه غنج طرفة، ولا مشيته، فأمر بقتله. هكذا يقتل الناس. دخل الحلبة وحده، وخرج من الموت منتصراً. قال للسيّاف: يا عزيزي، إن كان ولابد، فدعني أبادرُ المنية وحدي. اسقني أولاً، ثم إقطع كاحلي. ظل الشاعر ينزف على رمال الصحراء العربية العطشى، يلتفت يمنة ويسرة فلا يرى غير العقبان والنسور التي تنتظر القطرة الأخيرة من الدم. نظر إلى السماء وقال: ستبدي لنا الايام ما نجهل، ويأتينا بالخبر ما لم نزوّد. وكان هذا من أجمل الشعر الذي ظل النبي محمد (ص) يردده في الحياة.
يا زكيّ الأنفاس، تعرف أن الكثير منا في هذه الايام يخلط الجاه بالنوك. مرةً يقصد، وأخرى يجور. يتقاسمُ الشعراءُ أيامهم مناصفةً مع البائسات البلابل. يومٌ لهم، وللبلبل يوم. لكن إن جاءك يوماً من يقول بأن الشياه قد طارت، فصدقه. وإن قال لك بأن شعراءَ العراق قد طاروا، فلا تصدّق.
البنتان تقبّلان ناظريك الكريمين، وأمهما تخصَّ أخيها بالسلام.