في عام 2005 ، كان علي أن أكتب رسالة لدرجة الماجستير في الفقه أو الفكر الإسلامي، ولأني لا أفضل الموضوعات التقليدية ، فقد بحثت عن موضوعات جديدة يمكنها أن تثير فضولي على مدار سنة كاملة، ولكوني لا استطيع الاستمرار في الكتابة ما لم يوجد دافع قوي يجعلني أتحمل أعباء البحث والدراسة ، فلم يكن الحصول على شهادة الماجستير لوحده كافيا ليجعلني انهمر في كتابة مضنية في ظرف العراق القاهر ، حيث الطرق مقطعة الأوصال وهاجس الموت والقتل اليومي هو السائد.
بحثت في سوق الحويش في النجف عما تتحفنا به بيروت وقم ودمشق من كتب جديدة ، فعثرت على كتاب يتحدث عن المشهد الثقافي في إيران ، عن فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة تحديدا، ووجدت أن معده هو الدكتور عبدالجبار الرفاعي ، و كنت اسمع به ، وربما كنت قد قرأت له بعض المقالات لكن كتابه شدني إلى موضوع فلسفة الفقه الذي كان حقلا معرفيا لم أكن اعرفه ، كان بمثابة الفتح بالنسبة لي ، فهرعت إلى أستاذي المشرف لتسجيل عنوان لرسالتي : فلسفة الفقه. لم أوفق في الحصول على قبول لهذا الموضوع ، وأعطاني عنوانا آخر هو : الأقليات وأحكامها في الشريعة الإسلامية ، فأنجزته ، ولكني لم اترك علم فلسفة الفقه ، الذي عرفني إياه الدكتور الرفاعي ، وكنت أتابع كل ما ينشر عن الموضوع ، وقرأت للرفاعي بانتظام، وحين شرعت في الدراسة لنيل شهادة الدكتوراه عام 2008 ، كان هدفي منذ اليوم الأول أن اكتب في هذا الموضوع ، ففاتحت أستاذي المشرف بذلك ، ولكنه أشفق علي ، وقال لي : من أين نأتي لك بمناقشين لهذه الأطروحة ؟! ليس في الجامعة أستاذ مختص به ، وأعطاني رقم هاتف الرفاعي وطلب مني الاتصال به ، لأنه كان في بغداد وقت إذ ، لم أكن أجرؤ على الاتصال بعملاق مثله ، قلت في نفسي كيف يطلب أستاذي المشرف مني ذلك!هو يعرف أنني خجولة ، واتصل به وقال له ستتصل بك طالبتي في الدكتوراه . أصررت على العنوان فاقتنع به أستاذي ، واقر من قبل اللجنة العلمية في كلية الفقه على مضض ، لم يكن العنوان واضحا لهم ، عرفت ذلك من خلال مناقشاتهم معي بشأنه،وحين طلبت الكلية مني إقامة محاضرة ( seminar ) ، لأجل شرح عنوان البحث وموضوعه ، بادرتني تحذيرات من الخوض في هذا الموضوع الخطير والصعب ، وكان الاتهام جاهزا بالردة والكفر والخروج على المذهب لمن يكتب فيه ، وذهبت إلى أستاذي بعد شهور فسألني هل اتصلت بالرفاعي ؟ فضللت أستاذي وأجبته : سأتصل ، لم تسنح لي الفرصة ، وأنا أقول مع نفسي أية فرصة لم تسنح لي ؟ أنا لا أجرؤ على أن اكلمه … قلت في سري : ماذا يقول الدكتور ، أنا اتصل بالرفاعي ! من أكون لأتصل بشخص مثله ! سينعقد لساني ،بالتأكيد ،وقد لا استطيع الكلام معه ، وبدأت اقرأ له وصرت ألاحق نتاجاته وترجماته فكان لي الأستاذ الحقيقي ، وأخذت منه الكثير في أطروحتي ، وكنت أعيش معها حالة من الاندماج والإعجاب ، وعلى الرغم من حبي الجارف لعنوان موضوعي ، إلا أني اعترف أني لم أف العنوان حقه ، وذلك لقصوري ولخوفي من مناقشات الأساتذة في جلسة النقاش العلنية وهذا منعني من الانطلاق في هكذا موضوع يبدو مثيرا للجدل ، فكنت اختفي خلف الاقتباسات الكثيرة كي يقع اللوم على أصحابها الذين لا يعيرون اهتماما لآراء المكفرين أو المستحسنين . وحين جاء موعد المناقشة ، كان أستاذي يشفق علي مما سيحصل لي في قاعة المناقشة من اتهامات، فاقترح ــ ونحن نتداول في لجنة المناقشة ــ أن يأتي الدكتور الرفاعي لمناقشتي ، بعد أن يتقدم الدكتور المشرف بطلب إلى رئاسة الجامعة بذلك ، كما حصل معي في مناقشة الماجستير حين كان رئيس لجنة المناقشة السيد محمد بحر العلوم وهو من خارج الجامعة .وبدلا من أن افرح بهذا الاقتراح صرت أخشى جهلي أمام أستاذ كبير … ، وكنت اتسائل : لماذا يتصور أستاذي المشرف أن رسالتي تستحق أن تناقش من قبل أستاذ مثل الرفاعي ؟ أنا مجرد تلميذة مبتدئة مازالت تدرس الحروف الأولى مما درسه الرفاعي ، وحمدت الله على أن قضية مناقشة الرفاعي لي لم تتم ، كنت أخشى على نفسي منه ، ونوقشت الأطروحة ، وحصل ما كان أستاذي المشرف يتوقعه من اتهام بالكفر والخروج من المذهب ، وحصلت على اقل درجة أعطيت لطلبة الدكتوراه من دفعتي ، مع أني كنت الأولى في الامتحان التنافسي في دخول الدكتوراه ، والأولى في الفصل الأول والثاني من السنة التحضيرية ، وانتشرت الإشاعات في الوسط الجامعي عن رفض المرجعية لموضوعات كهذه ، لكني كنت متأكدة أن المرجعية في النجف لا تعرف بأطروحتي ولم تقرأها وهي لا تتدخل جزافا قبل الإحاطة بالموضوع بكل جوانبه .
وبعد عام من مناقشة الاطروحة ، التقيت بالرفاعي في النجف ، في ندوة تكريمية أقيمت في الجمعية العامة لتنمية المرأة ، وصدمني تواضعه ووداعته وأخلاقه العالية وأحسست باني صديقة قديمة له ، واني اعرفه منذ زمن بعيد ، فلماذا كنت أخشاه وأهابه ، لماذا كان كل ذلك الوجل الذي اشعر به كلما كلمني الأستاذ المشرف عنه ، لماذا لم يقل لي احد انه يملك من الوداعة ما يمنع الآخرين من الشعور بالغربة معه ، وشعرت بالندم على عدم استفادتي منه أيام كتابتي للأطروحة ، فكيف فوتّ هذه الفرصة الثمينة ؟ لماذا لم أراسله على البريد الالكتروني ؟على الأقل لأعرف إن كان سيستجيب لي ام لا ؟ من غرس فينا هذا الخوف من حملة العلم ؟ من فرق بين طلبة العلم والعلماء ؟ وخلق هالة لهم صادّة عن الأخذ منهم ؟ أليس هدفهم هو نشر العلم وايجاد قراء لكتبهم ؟ لا ألوم أحدا إلا ذاتي الخائفة من هواجس الرفض والإقصاء ، لأن هذا ما حصل معي في مسيرتي العلمية في كليتي . يبدو أنهم نجحوا في تحجيم حركتي والاتصال بالعالم الحرّ الذي يمثله الرفاعي وغيره من المفكرين المسلمين .
هذا الاكتشاف جعلني استعيد الرفاعي ، واستعيد نفسي ، واقتحم عالم البوح هذا !