في تخوم الحلة، حيث النخيل يستظل بظل التاريخ، وحيث نهر الفرات يهمس للقرى بحكايات الطمي والولادة، وُلد عبد الأمير خليل مراد، حاملاً في اسمه نداء العائلة، وفي قلبه بوصلة الشعر. وُلد في قرية “العتايج” عام 1953، ليكبر ويترعرع بين ريف بابل وشوارعها، متوقفًا عند بوابة التعليم المتوسط، لكنه مضى في تعليم النفس بلغة الشعر، فكان الحرف مدرسته، والصورة الشعرية كتابه المفتوح على التجربة، والتأمل، والمكابدة.
كتب عبد الأمير الشعر في أواخر ستينيات القرن العشرين، تلك المرحلة العاصفة في تاريخ العراق، حيث كان صوت الشاعر آنذاك إما مرآة للخراب أو محاولة لصنع غدٍ آخر. اختار عبد الأمير أن يجعل من قصيدته مزيجًا من الاثنين، يكتب ليشهد، ويشهد ليبقى. ومنذ تلك البدايات، شرع في نشر قصائده في صحف عراقية وعربية، ليحفر له مجرى خاصًا وسط تيارات الحداثة المتعددة.
لم يكن مراد مجرد شاعرٍ يكتب في العزلة؛ بل كان فاعلًا ثقافيًا، يُمسك بأطراف المشهد، يصوغ من حضوره في اتحاد الأدباء، ونوادي الشعر، والصحف، وشبكات الإعلام، مساحة لتأصيل الشعر في ذاكرة الجغرافيا والبشر. شارك في تأسيس مجلة “أهلة”، وشغل مناصب ثقافية في العديد من المنابر الصحفية، وكان صوتًا حاضرًا في فضاءات النقد والتحرير، مسؤولًا ومصححًا ومحررًا.
لكن الصوت الذي لا يخبو، والذي بقي حيًّا بين دفات الكتب والقلوب، هو صوته الشعري. قصيدة عبد الأمير خليل مراد ليست مجرد نبضٍ لغوي، بل هي رنين ذاكرة، ومزيج من شجن وحكمة. كتب عن الوطن كما لو أنه يكتب عن أمٍ تنامُ على جمرٍ من الخذلان، وعن الحلم كما لو أنه ورقة توتٍ أخيرة في خريف طويل.
آراء النقاد وتجليات القصيدة
لم يترك النقاد صوت عبد الأمير معلقًا في الفراغ، بل دارت حوله قراءات متعددة، بعضها جاء من قلب المعرفة، وبعضها جاء من وجع التلقي. وصفه الدكتور خليل إبراهيم المشايخي بـ”جمرة الشعر في موقد الحزن”، في كتاب يحمل ذات العنوان، في إشارة إلى قوة الإحساس، وحرارة الانتماء، والقدرة على إيقاد الذاكرة بالحرف. أما كامل حسن الدليمي، فقد جمع في “الرحيق المستعاد” قراءات نقدية تقف عند حدود القصيدة وتغور في أبعادها الرمزية، متلمسًا صدى الماضي في إيقاع الحاضر.
الدكتور ميثم الحربي قدّم كتابه “شغب الحروف المائلة” ليتناول في صفحاتٍ فاحصة مكامن التفرد والاختلاف، مؤكدًا أن عبد الأمير شاعر لا يكتب ليرضي السائد، بل لينحت ملامح ذاته في جدار التجربة العراقية القلقة. في حين ذهبت الدكتورة أسماء غريب في كتابها “حينما يخلع الشاعر نعليه” إلى أعماق التجربة الشعرية، متأملة “كيمياء” القصيدة، وكيف تتحول التجربة من وجدان خاص إلى شكل شعريّ نابض، ثم إلى قيمة جمالية قابلة للتأمل والتحليل.
ولعل ما يمنح عبد الأمير خليل مراد مكانةً خاصة في المشهد الشعري العراقي والعربي هو اهتمام الأكاديميين بمنجزه، إذ تناولت شعره ست رسائل ماجستير في العراق والجزائر وإيران، وهو ما يؤشر إلى امتداد أثره خارج حدود اللغة والتاريخ والجغرافيا، إلى فضاءات البحث والتخصص.
في أعماله الشعرية…
في دواوينه الشعرية مثل “الوطن أول الأشياء”، “صحيفة المتلمس”، “إيماءات بعيدة”، “تويجات البشارة”، “مكابدات الحافي” وغيرها، تتكرر الثيمات التي تشكل عمق تجربته: الوطن ككائنٍ جريح، الحلم المؤجل، الحزن الذي يفيض على سطور القصيدة، وأحيانًا سخرية لاذعة تحاول التخفف من ثقل الواقع. حتى في مسرحيته الشعرية “بيارق الحسين”، يتداخل الصوت الشعري بالتاريخي والرمزي، ليمنح النص بعدًا طقوسيًا من نوع خاص.
عبد الأمير خليل مراد هو شاعر لم يكتفِ بالوقوف في الظل، بل قرر أن يكون واحدًا من أولئك الذين يشعلون النور في الأمكنة المعتمة، لا ليضيئوا لأنفسهم فقط، بل ليهتدي بهم المارة في دروب الشعر. قصائده تنبع من الحلة، لكنها تسافر في تضاريس الروح العربية، وتخاطب في المتلقي وجعه الجمعي، وتطلعاته البعيدة. إنه شاعر يكتب لأن في الكتابة نجاة، ويصمت أحيانًا لأن في الصمت مساحة للتأمل، وبين الاثنين… تولد قصيدة جديدة، لا تشبه إلا عبد الأمير خليل مراد.