القسم الثاني
إن المغان الزرادشتيون حينما واجهوا علماء الإسلام حاولوا الدفاع عن أنفسهم ایضاً، ولكنهم حينئذٍ لم يقولوا: انا نعبد النار لانها وأهورامزدا من جنس واحد وطبيعة واحدة، بل انكروا عبادة النار رأسا، وادعوا: أنا نعبد اهورامزدا الذي هو الله المتعال، وانما نجعل النار قبلة لنا،
كما يقف المسلمون حينما يعبدون الله المتعال ويصلون له الى طرف الكعبة المعظمة من دون أن يعبدوا نفس الكعبة، وأن الزرادشتيين حينما يتكلمون عن تعظيم النار وتقديسها يأتون بلفظة العبادة (پرستش) كما كان يقول آباؤهم، ولكنهم لكي يتخلصوا من تحامل المسلسين عليهم كانوا أحيانا يبدلون كلمة العبادة بعبارة أنها قبلة لنا!
رغم أن الآفستا تشير الى ذلك بصراحة:” أتقدم بقربان كامل، مقدس إليك أيتها النار، يا إبن آهورامازدا، والى كل النيران…”. ياسنا، الجزء 7، الفقرة 14، ضمن كتاب الآفستا، اعداد: خليل عبدالرحمن ، ص68.
كما أن الدقيقي الشاعر المجوسي الفارسي، الذي كان امام الفردوسي في نظم (الشاهنامة) بمعنى هو أول من بدأ بنظم الشاهنامة ثم عقبه الفردوسي وأكمل عمله وأمله! في نظمه کلام زرادشت بشأن النيران يأتي بكلمة العبادة (پرستش) حيث يقول :
“اذهب برسالتي هذه إلى الملک گشتاسب.
فقل له: يا رب الأرض و الزمان، أوكلت الیک امركل نار…
كلما رأيت منها بأي مكان كان
لا يسعون في اطفاء النيران
الا بالماء اللطيف ولا بالتراب الثقيل.
وقل اللموابدة ورجال الدين …
لأولنك الطاهرى القلوب من الهربدان
ليغلقوا المغان و يسعوا في
عبادة جميع النيران “. ينظر: الفردوسي، الشاهنامة.
وقد اتبع الفرودسی في تعبيراته نفس هذه الطريقة الزرادشتية وجاء بكلمة العبادة (پرستش) في كثير من موارد شعره، منها ما قاله في اسطورة كشف النار: إن هوشنك رأي يوماً حية عظيمة أو ثعباناً فحمل حجراً كبيراً وهجم عليها ليضربها، لم يصبها الحجر بل أصاب الحجر حجراً آخر فانقدح النار من بينهما… وهكذا اكتشفت النار… يقول: بدا نور من الحجرين، وتنور قلب الحجر من النور، ولم يقتل الثعبان ولكن ندت النار من ذلك الحجر، وكل من يضرب الحديد بالحجر يظهر منها النار… فأخذ الملك يدعو الخالق ويحييه، إذ وهب له هذا النور، وجعل هذا النور قبلة لنفسه وقال: هذا نور رباني، فينبغي أن تعبده – أيها الانسان – إن كنت من أولي الالباب”. الفردوسي، الشاهنامة، ص17.
إلا أن الفردوسي يقول:” إنه جعل النار قبلةً لنفسه، بينما هو يعبرعن تعظيم النار وتقديسها بالعبادة: (پرستش) وهذا من تلك التعبيرات التي وجدت بعد الاسلام دفاعاً عن تعظيم النار وتقديسها. ويعكس الفردوسي في بعض أشعاره دفاعه عن عبادة النيران فيدعي أنها إنما هي محراب لهم وقبلة لعبادتهم وليست معبوداً، فمثلاً يذهب في قصة ذهاب كيكاوس وكيخسرو الى معبد آذرگشناسب:
” كانوا هناك أسبوعاً في عبادة ربهم…
ولا تتوهم أنهم كانوا يعبدون نفس النيران…
إنما كانت النار حينذاك محراباً لهم…
وهم كانوا يعبدون ربهم بعيون باكية
إنما كانت النار لهم بجمالها…
كما يكون للمسلمين العرب محاريب الحجر”.
لكنهم حينذ يقولوا: انا نعبد النار لانها وأهورامزدا من جنس واحد وطبيعة واحدة، بل أنكروا عبادة النار رأسا، وادعوا: أنا نعبد اهورامزدا الذي هو الله المتعال، وانما نجعل النار قبلة لنا، كما يقف المسلمون حينما يعبدون الله المتعال ويصلون له الى طرف الكعبة المعظمة. من دون أن يعبدوا نفس الكعبة. أي أن الزرادشتيين حينما يتكلمون عن تعظيم النار وتقديسها يأتون بلفظة العبادة (پرستش) كما كان يقول آباؤهم، ولكنهم لكي يتخلصوا من تحامل المسلمين عليهم ليقولن الله » ولم يكونوا يذعنون بأنها هي خالقة السموات والارض وانما كانوا يخضعون لها بالعبادة. وليس عرب الجاهلية فقط بل أكثرعباد الأصنام في العالم … وعلى هذا فلو ، دین زرادشت دین توحيدى بالنظر إلى التوحيد الذاتي والافعالي ، لیکن معنی افترضنا أن ذلك أن نراه توحيدية من حيث العبادة أيضا.
آن عبادة الزرادشتيين كانت منذ قدم الأيام في معابد النيران وفي محضرها، فماهي حقيقة هذه العبادة؟ هل أنهم يعبدون اهورامزدا في محضر النيران؟ ام نفس النار؟ أن العربي الجاهلي كان يقول:” هؤلاء شفعاؤنا عند الله… وفي نفس الوقت كان يقر بعبادته لها فيقول: “ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفي…”.
يقول الدكتور معين:” ان المسلمين الايرانيين كانوا يدعون الزرادشتيين: عبدة النار، نظرأ إلى تقديسهم للنار. في حين لم تكن النارعندهم آلهة خاصة أو رب نوع من أرباب الأنواع كما كان كذلك لدى الفرس قبل زرادشت. بل انما كانت النار محراب خمکا تكون الكعبة قبلة للمسلمين”.
ويقول أيضا:”ان النار تكمن في جميع الموجودات الطبيعية، وأن جوهر حياة البشر وجميع الأحياء هي تلك الحرارة الباطنية او الغريزية، وان النار في منبع جميع النشاطات الانسانية… بل هي موجودة معنويا حتى في النباتات والجمادات أيضا… وقد عبر عن هذا المولوي الرومي في مثنويته، اذ قال:
“دان صوت النای من نار الغرام …
ان لون الخمر من نار الغرام…
آن صوت الناي نار لا هواء…
لا يكن من لم يكن ذا النار فيه”!. ينظر: جلال الدين الرومي، كتاب المثنوي.
وقد أخطأ الدكتور محمد معين هنا نفس الخطأ الذي تمت الاشارة اليه من ذي قبل، إذ التبس عليه الأمر بين الشرك في العبادة والشرك فی الخالق، فتخيل، أن الذي يعبد يجب أن يكون له مقام في الخلق والايجاد، وحيث أن المجوس لا يقولون بهكذا مقام للنار فلیسوا مشركین، بينما لو كان الأمر كذلك لم يكن عرب الجاهلية أيضا مشركين؛ اذ لم يكونوا يعملون للأصنام شیئا سوی ماینبغي أن يكون لله أي الصلاة وتقديم القرابين، ولم يكونوا يرون أن هبل او عزی أوغيرها أرباب انواع مستقلة في الربوبية. والخطأ الآخر الذي وقع فيه الدكتور هو زعمه أن الشئ لوكان مفيداً جداً لم يكن بد من عبادته وتقديسه!.
ان قياس تقديس النار بالتوجه إلى الكعبة حين الصلاة قياس باطل؛ إذ ما من مسلم ـ مهما كان عاميا – يخطر بباله وهو يقف إلى الكعبة للصلاة أنه يريد أن يعظم بها الكعبة و يقدسها، والاسلام حينما قررأن تكون الكعبة قبلة لم يقصد أن يقدس الناس الكعبة حين الصلاة، بل الكعبة في جعلها قبلة ليست الا مثل نقطة الجنوب لوقيل للمسلمين أن يقفوا اليها للصلاة، فلا مفهوم لهذا أو ذاك سوى الأمر بأن يكون لهم حين الصلاة وضع واحد. و ليس في الاسلام ما يشير إلى أن هناك بين الله و الكعبة رابطة وجودية خاصة، بل قد علم القرآن المسلمین عکس ذلك اذ قال: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}، البقرة: 115. اذن فالوقوف إلى الكعبة ليس إلا لحكمة و فلسفة اجتماعية، هي: اتحاد المسلمين في الجهة التي يختارونها حين عبادتهم، وعدم تفرقهم في ذلك، وثانيا: أن تكون نقطة وحدة المسلمين هي اول بيت وضع للناس للعبادة، وهذا أيضا يرجع إلى تعظيم عبادة الله سبحانه بينما عبادة المجوس ليست الا تقديس لنفس النار، حسب اعترافهم و الدكتور محمد معين. فكيف يمكن أن يكون تعظيم النار تعظيما لاهورامزدا؟!.
ان للعبادة في قاموس المعارف الإسلامية مفهوماً واسعاً؛ اذ أن أية طاعة نبعت من طاعة الله هی عبادة في الإسلام، وكل طاعة لم تنبع من طاعة الله هی شرك بالله وسواء كانت طاعة لانسان آخر أو حتى للنفس الأمارة، الا أنه شرك ضعيف لا يستلزم الخروج عن ربقة الإسلام. أما الاعمال التي تتحقق بقصد انشاء العبادة و اظهار العبودية، التي لا معنى ولا مفهوم لها سوى التقدیس والتنزیه و اظهار العبودية؛ كالرکوع و السجود والتضحية وغيرها فلا تجوز في الإسلام لغير الله قط، لا لنبیّ ولا لملك ولا لولي ولا لأي شئ آخرما سوى الله سبحانه، واذا تحقق شئ من هذه الأعمال لغير ذات الله كان شركاً بالله تعالى، سواء كان عن عقيدة بالشرك اوعن عقيدة بالتوحيد: توحيد الذات والصفات.مرتضى مطهري، الاسلام وإيران، ص191.
ويستطرد السيد المطهري لتوضيح قصده في معنى العبادة والخضوع والفرق بينهما بقوله:” ولتوضيح هذا المعنى يمكن القول: ليس كل خضوع لاي شئ شرك اوعبادة له. بل انما الخضوع الذي يحتوي على التقديس والتنزيه، اذ لو كان الخضوع نابعاً من تصغير النفس أمام الآخرين فقط كان تواضعا، وأما إن كان لاكرام الغير وتعظيمه كان ذلك اکراما واحتراما، و ليس التواضع والاكرام عبادة للغير. و الفرق بين التواضع والتعظيم في أن معنی التواضع: هو اعلان تصغير النفس فقط، وأما معنى التعظيم: فهو اعلان اکرام الغير وتعظيمه، أما لو كان خضوع الإنسان أمام الآخر لتقديسه و تنزهه عن النقص كان ذلك عبادة له، و هذا هو الذي لا يجوز لغير الله سبحانه، اذ هو وحده الذي يستحق التقدیس والتنزيه عن النقائص فقط . المرجع السابق، ص191 – 192.
و التسبيح و التقديس نوعان: لفظي، وعملی: فالتسبيح اللفظی كأن يقول سبحان الله اي اسبح الله واقدسه وانزهه وابریه من كل نقص، أو الحمدلله أي انه هوالفاعل الحقيقي لجميع النعم وهو منشأ جميع الخيرات والبركات و الكمالات، ولذلك فالحمد يخصه لاغير، أو الله اکبر أي أن الله اكبر من كل ما يتصور بل هو أجل من أن يوصف او يوهم. فلايجوز مثل هذا لغير الله، سواء كان نبيا مرسلاً او ملكا مقرباً. وأما التقديس العملى: فهو ان ينشئ الإنسان عملا يعطي معني تقديس ذلك الموجود الخاص الذي يقدس، کالرکوع والسجود وتقديم القرابين. نعم لاصراحة في العمل فبالامكان أن تتحقق نفس هذه الأعمال لا للتعظيم بدون تقدیس، وحين فلا تحسب هذه الاعـمال عبادة بل تعظیم و تکرم (؟) إلا أن الأعمال التي تبدى أمام الأصنام أو النيران او غيرها فلايمكن ابعادها عن معنى التقديس. إن من فطريات الإنسان أن يقف أمام موجود كامل مبرا من النقص فيقدسه، والذي يجعله يقوم بهذا العمل هو غريزة فيه تبعثه على الثناء على الكامل المطلق؛ فالتقدیس اذن نابع من احساس فطرى في الإنسان. وهو توأم فيه مع الاستشعار باستقلال ذلك المقدس في الوجود سواء شعر بذلك الانسان ام لم يشعر! و بعبارة أخرى نقول : بما أن العبادة و التقديس نابعان من أحساس غريزي في الإنسان، فلا يلزم أن يعتقد الإنسان العابد في شعوره الظاهر باستحقاق ذلك المقدس للتقديس ولا بتنزهه عن النقائص ولا بالاستقلال الذاتي أو الفعلى لذلك المعبود. نعم، هذا معنى التقديس، وهذا هو الفرق بين التقديس والتواضع، و هكذا الفرق بين التقديس والتعظيم العادي، و هكذا الفرق بين التقديس وجعل الشئ قبلة. والشئ الذي يعمله المجوس في مورد النيران هومن التقديس لا التعظيم العادي ولا التواضع ولاجعلها قبلة، و العمل اذا كان تقدیس کني في أن يعد عبادة للشئ، سواء كان توأمة مع العقيدة الصريحة مقام الربوبية المطلقة لذلك الشئ أو ربوبية نوعية أولا هذا ولا ذاك. مرتضى مطهري، الاسلام وإيران، ص192.