23 ديسمبر، 2024 12:58 ص

عبادة العجل والحروب الأهلية

عبادة العجل والحروب الأهلية

 

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 54]
القرآن كتاب الله العزيز حين يتحدث عن امة أو فرد أو رمز معين فإنما يحدد سلوك الإنسان أو المجتمع ليبين الخلل ومكامن الانحراف, والذي يتفكر في الكتاب المجيد فإنما يغذي روحه وعقله فهو الثقل الأكبر الذي ورد في حديث أمام الموحدين عليه السلام انه ناطق
فاستنطقوه. كيف لا وهو كلام الله الذي يتعدى لكل زمان ومكان.
ولو أردنا أن نفهم ذلك السر الذي أدى ببني إسرائيل أن يقتل بعضهم بعضاً بعد عبادتهم لعجل السامري لننطلق من مضمون هذه الآيات الكريمة لفهم حالة مجتمعات تصل بها الأمور إلى سفك دماء بني الإنسان, وهذا ما جرى ويجري من حروب عبر التاريخ وإلى يومنا
هذا وفي كل بقاع الأرض دون استثناء لوجدنا أن ذلك بسبب صناعة الرمزية الفارغة والتي من مصاديقها عبادة العجل.
فما هي عبادة العجل؟ عبرت الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر العجل, بكلمة اتخذتم أو اتخذوا أو باتخاذكم {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 51] ويأتي الاتخاذ بمعنى الاختيار والعمل والصياغة.
وفي الآية الكريمة بعد أن أنجى الله تعالى بني إسرائيل من طغيان الفرعون واعد موسى أربعين ليلة {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة : 51] استغل فيها السامري طبيعة بني إسرائيل الجهل وضعفهم حيث كانوا يعيشون قبل ذلك
تحت سياط الظلم واستغل
فأما السامري وكما تذكر الآية الشريفة {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه : 96] فالسامري كان اقوي نظرا من بقية قوم موسى .وهنا نفهم أن من ينصع الأصنام ليس جاهلاً بل هو عالم يعرف كيف
يتعامل مع المجتمع.
وحين نريد أن نعرف لما أطاع بنو إسرائيل السامري, لنفهم بعد ذلك من هذا الآيات المباركة لماذا تتجه المجتمعات غالباً باتجاه الرمزية والأصنام الصامتة ولماذا تصل بها الحال بالنتيجة أن يقتل بعضها بعضاً.؟
في قضية بني إسرائيل نجد أن السامري كان يعرف طبيعتهم فهم لم يكونوا ليتحركوا مع موسى عليه السلام إيمانا منهم بوحدانية الله تعالى بل كان ذلك بسبب طغيان الفرعون ورغبتهم بالخلاص منه, وإنما نفوسهم في حقيقتها تبحث عن الصنمية حيث بمجرد خروجهم من
البحر طلبوا من موسى أن يجعل لهم صنماً قال تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف : 138]
فهم بطبيعتهم وبجهلهم يبحثون عن الأصنام أو عن الإلوهية بما يناسب مستواهم {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ
وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء : 153] .
وفي الحقيقة لم تكن نفس السامري لتسول له لو كان بنو إسرائيل على مقدار كبير من الوعي إذ سيكون من السخرية أن تعبد أمة عجلاً فالسامري لن تدعه نفسه لأن يكون محلاً للسخرية هكذا. عندما يرتقي المجتمع إلى مستوى متحضر. لكنهم كانوا على مستوى من
الجهل والوضاعة بحيث أصبح العجل إلهاً لهم.
ومن مميزات المجتمع المتحضر أن يحترم الآراء ويناقش الأفكار وتكون للفرد فيه خصوصيته الذاتية, فجميع الأديان جاءت لترتقي بذهن الإنسان فكم من الآيات ختمت بقوله تعالى يتفكرون أو يعقلون, والقوانين السماوية أولا وبالذات مرتبطة بعقل الإنسان لتعالجه روحياً
من خلال دخولها قلب ابن آدم لتجعل منه مرتبطاً بالله تعالى والآخرة ليترفع عن صراعات الدنيا والمكاسب غير المشروعة فيها فلا يسفك الدماء لأجهلها ولا يستحوذ على حقوق غيره.
هذا لمن يعبد الله ويتخذ سبيل الصالحين إليه سبيلاً. لكن لنرى الفارق بين من يتخذ العجل والأصنام سبيلاً وزلفى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] فهم يعبدون الأوثان والعجول اعتقادا منهم بقدسيتها التي تقرب إلى الله, يقول
الله تعالى عن هذه العبادة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر : 3] والآية الكريمة تشري إلى نمطين من الإضلال في استخدام صناعة وصياغة الأولياء والرموز الأول الكذب من خلال استغلال سذاجة العوام وهذا ما
يعرف باستخفاف العقول والثاني الكفر وهو لا يحصل إلا بعد وجود الدليل والبينات فيغيب الإنسان علقه المنطقي ليستحكم عليه قلبه الذي ملأه الجهل والرين قال تعالى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14]
مما تقدم نستطيع نفهم بعد ذلك لماذا أن اتخاذ الأصنام والعجول يؤدي إلى أن يسفك البعض دم البعض الآخر كما في قضية بني اسرائيل
وعليه لو تدبرنا الفرق الكبير والشاسع بين أن يصدر الأمر من السماء يحاكي العقول صدقاً كما كلم الله تعالى نبيه موسى عليه السلام فيكون فيه نجاة ورفعة {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه : 24] وأيضا {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان : 24] وبين
خوار يصدر من عجل جسدا فقط لا معنى له, يمثل الواسطة بين الخلق والسماء كذبا ودجلاً يقول عنه الله تعالى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف : 148]
إن هذا الظلم والانحطاط سببه ما يعرف بالطوطمية وهو أسوأ جهل في فهم الدين فيه يتحول الدين إلى عاطفة بعيدة عن العقل يهبط الإنسان فيها إلى مستوى البهيمية الغريزية في سلوكه الذي يريد أن يصل بها الإنسان إلى ربه قال تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة : 93] فيستحوذ حب الأصنام على القلوب حتى يصبح عقيدة قلبية في المجتمع لا يستطيع العقل المنطقي هزهزتها ولا يناقش محتواها لأنه في الواقع ليس هناك دين, إنما هو مزيج العاطفة والغرائز الدنيوية
يصوغها الإنسان مرة على شكل وثن ومرة على شكل عجل ولربما على شكل إنسان.
وبعد ذلك عندما تستحكم الغرائز على ابن آدم يتبدل القانون في الحياة من قانون الإنسانية والتعامل العقلائي إلى قانون الغاب والوحشية البهيمية فيتفشى ذلك في المجتمع فيسفك البعض دم البعض الآخر كما حصل لعبيد العجل من بني إسرائيل, فيقال أن موسى أمرهم
أن يقتلوا أنفسهم ولربما يكون هذا الأمر مندك في مضمون نسف موسى عليه السلام للعجل في اليم, في تفسير قد يطول مقام شرحه على هذا المقال عسى أن نوفق لكتابته لاحقاً.
ولهذا فأن محاضرات توحيد التيمية الجسمي الأسطوري ومحاضرات المارقة في عصر الظهور منذ عهد الرسول التي ألقاها سماحة المحقق الأستاذ كانت تركز على جانبين ضرورة أن يترتقي الإنسان إلى المستوى العقلي الذي كرمه الله به وبيان حقيقة الرمزية الفارغة
لابن تيمية, هذا الرمزية التي أدت إلى أن تؤخذ تفاهاته الفكرية كأنها خوار عجل بني إسرائيل التي كانت نتيجتها زهق الآلاف من الأرواح