23 ديسمبر، 2024 3:34 م

عبادة البشر في محكمة القرآن الكريم

عبادة البشر في محكمة القرآن الكريم

الإنسان ذلك الكائن العجيب الذي انطوى له الكون بأكمله وهذا الكائن الذي فضله تعالى على كثير من خلقه وجعل تفضيله مفرعاً على تكريمه حين دخوله في ركب المسيرة المتمثلة في بني آدم، كما قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلفنا تفضيلا) الإسراء 70. فتكريم الإنسان على ضوء هذه الآية الكريمة يتمثل في كونه منسجماً مع ركب المسيرة الآدمية باختلاف اتجاهاتها ولكن الاستثناء جاء ليحدد مشروعية هذا التكريم عندما يكون متلبساً بلباس التقوى بغض النظر عن النسب والجنس واللون وغيرها من المسميات لذلك قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. والآية تشير إلى أن أصل الخلق البشري القادم من الذكر والأنثى أضيفت إليه صفة الجعل التي قسمته إلى شعوب وقبائل وكانت العلة كما مبين في الآية الكريمة هو التعارف بين أبناء البشر فأصبحت هذه الآية مقيدة للإطلاق الذي ورد في آية سورة الإسراء رغم إنفكاك الجهة حيث أن قيد التقوى هو الذي يرسم التفاضل بين الناس لا أنسابهم وألوانهم كما أسلفت. لأن الإنسان المجرد عن التقوى لا سبيل إلى قربه منه تعالى ولو تتبعنا جميع الآيات القرآنية التي تذكر الإنسان نجدها تشير إليه توبيخاً وتقريعاً حيث أن هذا اللفظ يعني الإنسان من حيث الخلقة التي لم يدخلها تنظيم بعد، كقوله تعالى: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) النحل 4.

 وقوله: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) الإسراء 11. وكذلك قوله: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) الكهف 54. ولأجل أن  اختصر عليك الطريق فهناك ستاً وخمسون موضعاً في القرآن الكريم عن الإنسان، ولا توجد آية واحدة تصفه بالحسنى قبيل الدخول إلى ركب التقوى فلا يمكن أن يفضل أو يكرم لأنه ابن عمرو أو صهر زيد، حيث أن هذا التكريم سالب بانتفاء موضوعه.
من بعد هذه المقدمة يتضح لنا أن العبادة مفهوم كبير يتشعب إلى مصاديق كثيرة وقد يتبادر إلى ذهن المتلقي من العنوان الذي وضعته للمقال أن المقصود بعبادة البشر هو الإتيان بتفاصيل العبادة المتجسدة بأهم أركانها وهي الصلاة، وبذلك يكون بعض الناس في هذا العالم يُسجد لهم باعتبارهم محلاً للتقديس من قبل الآخرين. لا أريد أن أثبت أو أنفي هذا وإنما العبادة الموجهة للبشر والتي أريد أن أتكلم عنها تأخذ مصداقاً عرضياً للمفهوم المتمثل بالطاعة التي هي من أكبر مصاديقه كما قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس 60.
 أي لا تطيعوا الشيطان فأطلق العبادة وأراد بها الطاعة، ولو تأملنا الموارد التي كان الشيطان يذكرها أثناء حديثه مع رب العزة لوجدنا أن هذه الموارد هي التي نفذ من خلالها إلى النفوس التي ليست لها حصانة والتي تكون مهيأة في كل حين لإغواء الشيطان الذي قال تعالى على لسانه: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) الأعراف 17.
والجهة اليمنى التي ذكرها الشيطان أحد وجوه تفسيرها يتمثل في الدين ودعاته الذين صدق عليهم إبليس ظنه، وطاعة هؤلاء من أهم أسبابها هو الجهل بهم وهذه هي الطامة الكبرى فضعاف الناس أو أمية هذا القرن كما وصفهم الإمام علي (عليه السلام).. بأنهم ينعقون مع كل ناعق، والذين باعتقادهم أن كل من يرتدي الزي الديني يكون وريث الأنبياء فهؤلاء هم الذين يجب أن نضع النقاط على حروفهم، وللأسف فإن هذا النوع من الناس ما إن يرد ذكر أحد أصحاب الشأن إلا وجعل له نصيباً من الله وكأن المذكور هو الذي يجب أن يعبد وقد أخذ الحصة الكافية من العبادة التي لم يترك أي من أجزائها لله تعالى… [تلك إذاً قسمة ضيزى]… وهذه هي الجهة التي أغواهم الشيطان من خلالها، وهناك صنف آخر من الأمية يعتقد أن السيادة الدينية هي أمر وراثي متناسياً أن النسب والصهر أمر مذموم في القاموس الديني بصفة عامة، فهذا ابن نوح الذي ضل عن طريق الحق وقال لأبيه حين الطوفان: (سآوي ألى جبل يعصمني من الماء) هود 43.
 عندها قال له نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) هود 43. ثم عقب تعالى بقوله: (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) هود 43. وعند انتهاء الطوفان نادى نوح ربه: (فقال رب إن ابني من أهلي) هود 45. فقال له الله تعالى: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) هود 46. ولكن أمية هذا الزمن كما أشرت قد جهلوا أو تجاهلوا الحقائق القرآنية معتقدين أن من كان أبوه ولو فرضنا جدلاً من المقربين كان لزاماً أن يكون الابن نسخة منه حسب اعتقادهم وهذه حقيقة العبادة لهذا السنخ من البشر والله تعالى يؤكد على أن النسب أو الصهر لا تتعدى حدوده طرق التقوى لأنها اللازم الوحيد لدين الله لذلك قال تعالى في معرض حديثه عن النسب: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسائلون) المؤمنون 101. نعم قد يجمع الله تعالى من صلح من الذرية والآباء والأزواج في الجنة كما قال: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) الرعد 23. فهل يوجد أعظم من هذا الكتاب الذي فيه تبياناً لكل شيء فلماذا لا نستجيب للقرآن لتجنب أخطاء ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ما أنزل الله بها من سلطان، لماذا كل هذه العبادة واضفاء القاب ودرجات دينية بعيدة عن شرع الله فحين يصرح القرآن الكريم: [إن أكرمكم عند الله أتقاكم] للأسف نجعل التقوى آخر مراحل التكريم فبدل أن نهتم بما يكتب العلماء من كتب ومؤلفات نهتم بصورهم ونسبهم الذي لا يعادل عند الله تعالى جناح بعوضة متبعين مسوغات أخرى ودرجات لا تمت للواقع بأية صلة ولا تمثل أكثر من رهبانية إسلامية، فمتى كان رجل الدين لا يمشي في الأسواق إلا بوجود حماية ومعقبات من بين يديه ومن خلفه ويجب أن يؤدى له السلام وتحية مشابهة لما يتعلمه الجند في مواقع تدريباتهم ناهيك عن الأموال التي تجمع لهؤلاء تحت مسميات يحسبها الجاهل من الدين وماهي منه، في حين أن هناك الفقر المنتشر في جميع أنحاء الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام، والحقيقة أن خطاب هؤلاء لا يجدي نفعاً لانغماسهم في ملذاتهم وتنعمهم، حتى نجدهم قد فاقوا الشيطان في إغواء الآخرين كما قال الشاعر:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى……بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده……طرائق كفر ليس يحسنها بعدي
إذن الخطاب مع هذا النوع لا يجدي نفعاً ولكن علينا توجيه الخطاب لمن تطأ أقدامه الأرض خلفهم، وصدق الله تعالى حين قال على لسان إبراهيم: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) إبراهيم 36.