18 ديسمبر، 2024 9:00 م

” عبء” الديمقراطية !!

” عبء” الديمقراطية !!

مثّل عنوان الندوة الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافي الدولي لهذا العام إشكالات الواقع والتحدّي في آن، بين “الديمقراطية الموعودة” و”الديمقراطية المفقودة”، خصوصاً حين حمل سؤالاً مكمّلاً: ” أين الخلاص؟” بعد أن وضع ” عبء الديمقراطية الثقيل” في الصدارة.
لم يحدث أن واجهت الديمقراطية بصفتها المعيارية أو الإجرائية، مأزقاً مثلما تواجهه اليوم، فعلى مدى العقود الثلاثة ونيّف الماضية يمكنني أن أستحضر كمّاً هائلاً من المشاركات والدراسات والأبحاث والمؤتمرات بشأنها، وأتوقّف هنا عند ثلاث محافل مهمة كان آخرها جلسة عصف فكري “أكاديمي” نظّمتها جامعة فينيسيا (إيطاليا) (أيار/2019) حول “مصادر الديمقراطية” وقبلها بعقد ونصف من الزمان– ندوة دولية تم تنظيمها في سيؤول (كوريا الجنوبية) خريف العام 2002، حول “آفاق الديمقراطية” بحضور مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأسبق وذلك عشية غزو العراق، وسبقها- ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في قبرص (ليماسول) 1983 حول ” أزمة الديمقراطية في الوطن العربي”.
ولم تكن الديمقراطية حينها، وخصوصاً في عالمنا العربي مطروحة على بساط البحث كخيار للحكم، خصوصاً في ظلّ هيمنة التيارات الآيديولوجية الشمولية آنذاك: القومية واليسارية والإسلامية. ولذلك يأتي “سؤال أصيلة”، بعد هذه السنوات، استفهامياً مثيراً فهل وصلت الديمقراطية إلى طريق مسدود؟ وهل ثمة أسلوب حكم آخر أفضل منها أو يتجاوزها؟
لقد اجتاحت الموجة الديمقراطية آخر ما تبقى من قلاع الدكتاتورية والاستبداد في أوروبا الغربية في سبعينيات القرن الماضي، وشملت اليونان والبرتغال وإسبانيا، وبدأ التململ في أوروبا الشرقية التي انتقلت من أنظمة شمولية إلى أنظمة تتوجه صوب الديمقراطية، لاسيّما بعد انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني/1989 وانتهاء عهد الحرب الباردة، وامتدت الموجة إلى أمريكا اللاتينية وعدد من بلدان آسيا وأفريقيا، ومع أن رياح الديمقراطية انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط ، إلّا أن حضورها اللّاحق حتى وإن جاء متأخراً، طرح عدداً من الأسئلة الجديدة- القديمة في ظل النكوص والتراجع وانسداد الأفق. وفاض الجدل حول مستقبل الديمقراطية وآفاقها، أكانت عريقة أم ناشئة أم جنينية؟.
وإذا كانت الانتخابات من مقتضيات الديمقراطية ، فهي ليست وحدها التي تقرر “شرعية الحكم” و”ديمقراطية النظام”، خصوصاً بضعف التمثيل وشحّ فرص الشراكة والمشاركة وعدم مراعاة التنوّع الثقافي وحاجات الناس وقيم الديمقراطية، الأمر الذي ولّد عزوفاً من جانب المواطن، حيث بدأت ثقته تهتز وحماسته تضعف في الإقبال عليها.
وتمثّل المبادئ الدستورية والقانونية العامة مثل “الشعب مصدر السلطات” و”حكم القانون” و”فصل السلطات” و” الحقوق والحريات” و” تداول السلطة سلمياً”، الجوانب المعيارية – القيمية في الديمقراطية، في حين أن الجوانب الإجرائية العملانية تتّبع الآليات المناسبة لإدارة التنوّع وتنظيم شؤون الحكم بما يتناسب مع تطور كل مجتمع.
وقد دلّت التجربة التاريخية لنحو ثلاث قرون من الزمان أن الديمقراطية كنظام تتطوّر وتتقدّم ، ولكن ليس دون مشكلات ونواقص وثغرات وعيوب، فهي ليست “مثالية”، بل هي كما عبّر عنها ونستون تشرشل “النظام الأقل سوءًا من غيرها” ، وبهذا المعنى فهي ليست “مخلّصاً” أو “خشبة نجاة” أو ” وعداً”، بقدر ما تعبّر عن إمكانية إدارة الحكم وتداولية السلطة وتنظيم التنوّع بالإقرار بالتعددية، ومثلما تحمل مشتركات قيمية وإنسانية عامة، فهي تمتلك خاصيّات خصوصية، وهو ما أشار إليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47 الصادر في 4 ديسمبر (كانون الأول) العام 2000 والموسوم ” تعزيز الديمقراطية وتوطيدها” .
وعلى هذا الأساس فبإمكاننا القول إن الديمقراطية سلسلة تجارب غير مكتملة، تتطوّر وتتغيّر وتتقدّم وتتراجع أحياناً، وأهم ما فيها هو قدرتها على ” إدارة التنوّع” باتباع آليات سلمية، وحتى مع خروجها أحياناً على جانبها المعياري باختيار المحكومين للحكام بصورة خاطئة، كما حصل مع هتلر أو مع صعود الموجة الشعبوية الجديدة، التي أوصلت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أو فوز الشعبويين حالياً في النمسا وهولندا والدانمارك وبولونيا وتشيكيا والمجر ، فضلاً عن ارتفاع رصيدهم في فرنسا (حزب ماري لوبان) وإيطاليا (حركة الـ 5 نجوم) وألمانيا (حزب البديل الديمقراطي) وغيرها، فإن معالجة مثل هذا التوجه “غير الديمقراطي” سيكون بوسائل ديمقراطية، لأنها حتى الآن الآلية السليمة والأكثر قدرة على معالجة أزمات الحكم وتنظيم علاقة الحاكمين بالمحكومين.
وفي منطقتنا واجهت الديمقراطية طائفة من التحدّيات الكبرى التي تقف حائلاً أمام اجتيازها العتبة الأولى مثل ” النزاعات الطائفية والمذهبية” فضلاً عن “التوترات الإثنية والقومية” و”الحروب الأهلية “، و”العنف المجتمعي بجميع صوره” و”الإرهاب الدولي” و”الحروب الإقليمية”، ناهيك عن “شحّ ثقافة الديمقراطية”، لاسيّما بتعاظم كوابح ما قبل الدولة وما دونها مثل العشائرية والجهوية وغيرها.
وهكذا فالديمقراطية ظلّت تراوح “بين المحظور والمنظور”، وتتجاذبها عوامل شتى من شدّ وإرخاء ونجاح وإخفاق، لكنها بالرغم من كل نواقصها وعيوبها تمثل خيارات وآليات تستجيب للحدّ الأدنى من المشتركات الإنسانية والخصوصية الوطنية، وليس هناك موديل كامل ونهائي يصلح لجميع المجتمعات.
نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) ، الاربعاء 3/7/2019