بعد عدة ايام سأكمل وعائلتي سنة كاملة في امريكا واحببت ان اشارك المهتمين تجربتي التي تحدثت عن بعض ابعادها في مقالات سابقة بعنوان (امريكا من الداخل) و( المسلمون في امريكا) و(الشرق الاوسط في اعين الاخرين) و( المسلمون ونظرة العالم لهم) وغيرها من المقالات التي ركزت على بعض الجوانب مما رأيت واليوم سأحاول تغطية جوانب اخرى لم تتطرق لها المقالات السابقة واتمنى ان تكون مفيدة للمهتمين والمتابعين وباعثة على اعادة التفكير في الكثير من المفاهيم المغلوطة التي اكتسبناها بالوراثة او التلقين او الايحاءات السلبية لوسائل الاعلام المختلفة الموجهة سياسياً وفكرياً والعبثية منها ايضاً.
كغيري من الكثيرين وصلت الى امريكا مبتعثاً عن طريق مكتب رئيس الوزراء في العراق لأكمال دراستي العليا وقد امتلأ رأسي قبل وصولي الى هنا بالكثير من الانطباعات عن نمط الحياة في امريكا وطريقة تفكير الناس هنا وكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض ونوعية نظرتهم الينا كعرب ومسلمين وقد قرأت وبحثت كثيراً عما يمكن ان يساعدني على فهم هذا المجتمع وتجنب سلبياته (الكثيرة جداً كما استنتجت من كل ما قرأت وسمعت وشاهدت في التلفاز قبل الوصول!) وما او وصلت الى هنا حتى بدأت اعمل وفق ما انطبع في ذهني من افكار فمثلاً كنت اخاف الخروج الى الشوارع ليلاً وطالبت صاحب المنزل بتركيب بدل القفل 3 اقفال وكنت شديد الحرص على مراقبة اقوالي وافعالي حتى لا اقع في المحذور (وقد كانت قائمة المحذورات في رأسي كبيرة جداً) ولكن بمرور الوقت بدأت ارى ما لا يتفق اطلاقاً مع ما تصورت ورأيت في الاخبار والافلام والمسلسلات عن امريكا فلا مجانين يجوبون الشوارع بمسدساتهم ولا شرطة تملأ الشوارع بحثاً عن مطلوبين ولا مجتمع متفكك يلهث ليل نهار بدون هدف ولا اناس عدائيين لا يحبون احداً ولا مظاهر مجون وفسوق وتعري مما كنا نسمع ونرى في الافلام. نعم ليس هناك من ذلك اكثر مما هو موجود في اغلب الدول العربية والاسلامية وكل دول العالم الاخرى بل ورأيت ما لم اكن اتوقعه، اناس تبتسم في وجهك وتحييك في الشارع حتى لو لم تكن تعرفك ولم تلتق بك من قبل والكل ودود والكل يتمنى ان يساعدك ويتعرف عليك اكثر. ومن الامور التي كانت غريبة علي في البداية اني رأيت اكثرية الناس هنا متلهفين لمعرفة المزيد عنا منا مباشرة وحين سألتهم عن ذلك قالوا انهم لا يثقون بأعلامهم وحكومتهم وانهم يفضلون سماع الحقيقة من اهلها فهم (واقصد الاغلبية ممن التقيتهم وقد لا تعبر عن الواقع كله) قد توقفوا عن تصديق ما تقول حكومتهم لهم في وسائل الاعلام الرسمية منذ عقود وبدأ الكثير منهم يعملون عقولهم فيما يسمعون ويحللون ما يصلهم من اخبار قبل اخذها كحقائق لأنهم بشكل عام يكرهون الشائعات والاخبار الغير موثوقة ولا يصدقون اي خبر بدون دليل مما جعل الكثير منهم واعين للوضع العالمي على الاقل من وجهة نظرهم كأمريكان.
طبعاً كل هذا لم يكن سهلاً على تقبله في البداية وانا المولع بالافلام الاجنبية قد رأيت مئات الافلام التي تحكي عن عمق المؤامرات والدسائس التي تحاك هنا وهناك من قبل الكل ضد الكل! فلم اصدق ما رأيت بداية وفضلت المراقبة والسكوت حتى اتبين ما يفعل هؤلاء وهل يفعلون ما يفعلونه بشكل بريء او لغاية في نفس يعقوب! ولكن مع مرور الوقت والتعرف على اناس اكثر واكثر والسفر في عدة اماكن تبين لي ان ما كان يفعله الناس وما يفعلونه الان هو حقيقتهم وليس تمثيلاً او تصنعاً. نعم هناك المتعصبون والمتطرفون والمبغضون للعرب والمسلمين ولكنهم قلة محكومون بقانون لا يسمح لأي منهم بالاعتداء بدون عقاب. وطبعاً هناك المتشددون الذين يقومون بعمليات القتل الجماعي كل فترة في مستشفيات او مدارس او عيادات طبية او اسواق وهؤلاء نتيجة طبيعية لمجتمع منفتح كبير (اكثر من 320 مليون انسان) واغلبهم ان لم يكن كلهم يلقون جزائهم بالاعدام او السجن المؤبد على خلاف ما يحصل عندنا حيث لا قوانين ولا معايير ولا قيمة لحياة البشر.
الامر الاخر الذي نبهني اليه احد الاصدقاء الامريكان حين سألته عن الفرق الكبير بين الواقع الامريكي وما تعكسه الافلام الامريكية من عنف وشذوذ وانحطاط وجريمة وكوارث فقال لي ان الافلام الغرض منها تسلية وامتاع الناس فلو كانت واقعية 100% وبلا مبالغة فأنها لن تجذب انتباه الناس لأنهم لا يهتمون لصرف اموالهم لحضور عرض فيلم يتحدث عن حياتهم اليومية فهم يبحثون عن شيء مميز ومشوق ومبالغ فيه وهذا ما لاحظه منتجوا الافلام فحتى القصص المنقولة عن احداث حقيقية تجد فيها الكثير من الاضافات السينمائية لجذب الانتباه وكسب مشاهدين اكثر وهي اولاً واخراً صناعة رابحة الهدف منها الربح وليس تصوير الواقع بسلبياته او ايجابياته. وما يهمنا من هذا الامر هو الابتعاد عن التصورات السطحية الساذجة بأن كل ما نراه في الافلام واقع وحقيقي من المجتمع الامريكي فهذا خطأ جسيم فكما ان السينما المصرية لا تعكس واقع كل المجتمع المصري
اطلاقاً وكما ان السينما الهندية لا تعكس واقع المجتمع الهندي (الذي يعيش نسبة كبيرة منه تحت خط الفقر والمرض) فكذلك السينما الامريكية لا تعكس الواقع الامريكي بأمانة وانما هي منتجات ترفيهية لا اكثر.
الواقع الذي رأيته وعايشته لمدة سنة الان بصيفه وشتائه وفصوله الاربعة هو ان هناك شعباً متكوناً من كل الاديان والمذاهب والاعراق قد اجتمع في مكان من الارض بشكل او بأخر يعترفون بالجرائم التي اقترفها اسلافهم تجاه السكان الاصليين (الهنود الحمر) ولكنهم في نفس الوقت يقولون انهم ليسوا مسؤولين عن جرائم ارتكبت منذ قرون (على خلافنا نحن الذين نعيش الى اليوم اصداء حروب وكوارث حدثت في قديم الزمان ولا زلنا نقتل بعضنا البعض بسببها!) وهم اذ يقرون ان اسلافهم قد اجرموا بحق السكان الاصليين فهم اليوم يقولون انهم لا يتحملون اي ذنب مما حصل في الماضي ولكن رغم ذلك فقد قدموا الاعتذارات الرسمية (اوباما اعتذر بشكل رسمي من الهنود الحمر بأسم الحكومة الامريكية عن كل ما حصل لهم في الماضي) ويقدمون اليوم كل ما يستطيعون للحفاظ على البقية الباقية (هناك اليوم اكثر من 5 ملايين من السكان الاصليين في امريكا) حيث هناك 566 محمية (قرية او مدينة) للسكان الاصليين يمارسون فيها طقوسهم بحرية ولهم قوانينهم المحلية التي يطبقونها على انفسهم ومن يزورونهم وقد اندمج الكثير منهم في المجتمع الامريكي وصار منهم القضاة والمحامين والسياسيين والاطباء والمختصين في كل صنوف المعرفة.
في الجانب الاجتماعي هناك عوائل محافظة واخرى منفتحة (حالهم كحال كل دولة في العالم) وهناك متدينين ومتعصبين ومنفتحين ومعتدلين ولكن الجميل ان هناك قانوناً فوق الكل يضمن للجميع حقوقهم ويمنع اي منهم من التعدي على حرية الاخرين او اغتصاب حقوقهم حيث حرية الكلام والصحافة وممارسة الطقوس الدينية مكفولة للجميع ما لم تتعارض مع مصالح الدولة العليا. ايضاً هناك اولاد وبنات يتركون بيوت اهليهم في سن ال 16 او 17 او حتى 23 وهناك من يعيشون مع اهاليهم حتى بعد الزواج وليس هناك قاعدة ثابتة لذلك فهي قناعات شخصية متغيرة من مكان لأخر ومن عائلة لأخرى وهناك بعض العوائل هم من يشجعون ابنائهم على الاستقلالية (لأنهم يرون ان ذلك يساعد الشباب على تحمل المسؤولية والاعتماد على النفس مبكراً) حتى وهم في الاعدادية او الكلية ولذا ترى الطلاب هنا يعملون ويدرسون في نفس الوقت بعملية كفاحية تستحق الاعجاب والتقدير حيث تجد طالب الكلية لديهم يعمل من 20 الى 40 ساعة في الاسبوع ويسجل على محاضرات تتجاوز ال 18 ساعة اسبوعياً ويعملون بأخلاص وينجحون بتفوق ويتسابقون للحصول على وظيفة وهم في المرحلة الثالثة او الرابعة ويحصل اغلبهم على مبتغاهم بالتعيين في شركات خاصة حتى قبل التخرج حيث هنا لا تهتم الشركات بالشهادات بل بما يجيده المتقدم من مهارات ولذا تجد الكثير من الموظفين في الشركات غير حاصلين على شهادة اكاديمية بل ويعودون لأكمال الدراسة بأعمار متقدمة تترواح بين 35 و45 حين يكونون قد عملوا لسنين طويلة ووصلوا الى مرحلة تؤهلهم للعمل بوقت جزئي والدراسة بوقت جزئي ولذلك قلت انهم مكافحون مجتهدون حيث انهم يجتهدون لعمل كل شيء في نفس الوقت الاستقلال عن الاهل وبناء عوائلهم الخاصة والدراسة والعمل والاستمتاع بحياتهم والتفكير لتطوير انفسهم وكل ما حولهم مع كل ذلك بخلاف ما نراه في الافلام من شباب منحل ومجتمع متفسخ ودولة مليئة بالاجرام.
طبعاً لا يتصور احد ان كل هذه الايجابيات تخلو من سلبيات كثيرة ترافقها. طبعاً هذا غير صحيح فكغيرهم من المجتمعات البشرية تجد فيهم العقليات المقفلة والعقليات الاجرامية والمتعصبين والمنحلين والمشاكل الاجتماعية هنا وهناك والاضطرابات السياسية والمساجلات المستمرة بين الحزبين الرئيسيين الجمهوري (المحافظين) والديمقراطي (الليبراليين) ولكن كل ذلك لا يمنع المختلفين سياسياً وفكرياً واجتماعياً من الجلوس الى طاولة واحدة والتعاون على حل مشكلة او تطوير سياقات عمل او تخطيط للمستقبل. واخيراً اود ان اذكر ان هذه مشاهدات خاصة تعكس فقط جزءاً من الواقع وقطعاً ستكشف لنا الايام اكثر واكثر والله اعلم.