23 ديسمبر، 2024 2:48 ص

عامل نظافة ، ومبدأ (لا يصح إلا الصحيح)

عامل نظافة ، ومبدأ (لا يصح إلا الصحيح)

سمِعتُ صوت منبّه سيارة القمامة ، فأستعددتُ لإخراج حاوية النفايات من المنزل ، تناول عامل النظافة حاويتي ، وأفرغها بمهارة في (جعبة) السيارة ، شاب في العشرينيات ، مُلثّم رغم الحر الشديد كي لا تزكم أنفَه رائحة النفايات ، وربما ليتقي حر الشمس لئلا تحرق وجهه .

حذاؤه ممزق ، كيف لا ، وهو لا يعرف غير طريق النفايات في عمله ، وأتذكّر بنفس الوقت ، أحذية برّاقة من أرقى الماركات ، تدوس سجادةً حمراء ، أو لا مناص لها لتخطو بسبب أطواق الحمايات والمتزلفين والإمّعات ، يرتدي قبعة ، لا أعرف لونها لأنها ملّت العرق وسطوع الشمس الذي لا يرحم ، مشتملا بأسمال ، بقايا (تراكسوت) وقميص ممزق ، وقد غطّت تلك الأسمال القاذورات بسبب بيئة عمله ، وأتذكّر أرقى البدلات من أشهر دور الأزياء ، يرتديها (أفندي) ، لا تسقط عليها أشعة الشمس ، في مكاتب مكيفة ومريحة ، يقوم السائقون في إسطول حماياته بتشغيل مكيفات سياراتهم الفارهة قبل خروج (الأفندي) بساعة ، أو لا تُطفأ نهائيا طيلة زيارات هذا (الأفندي) ، هذا الشاب يعمل كالماكنة ، لم يتعبه حمل حاويات الأزبال ، وأرى المسؤول عند إستقلاله لسيارته ، لا يُتعِب نفسَه بمد يده لفتح مقبض السيارة وإغلاق الباب ، فثمة أكثر من متخصص يقوم بذلك ، ويتقاضى لذلك أجرا .

سألته ، بُني ، هل أكملت تعليمك ؟ ، إستغرب في بادئ الأمر ، لم يسأله أحد هذا السؤال رغم طرقه لمئات الأبواب يوميا ، فقال : إعدادية ، قلت : لِمَ لَمْ تُكمل دراستك ؟ ، قال : ألا ترى الحال يا حاج ، عشت عمري وأنا أرى إلحاح آبائنا بإكمال دراستنا ، لكني فهمت الأمر متأخرا بعد أن أضعته على إكمال الإعدادية ، فماذا فعلت الدراسة للخريجين منذ 18 عام ، أتعبوا أدمغتهم ، فصاروا ضحية مَن لا أدمغة لهم ، كلّتْ أعينهم من المطالعة ، فجافتهم مجموعة من عميان البصيرة ! ، حلّ محلّهم الأميون والمتخلّفون وأصحاب الشهادات المزورة ، من الأقارب وأصحاب الرّشى ، وجميعهم لا يحمل ذرّة من النزاهة والوطنية ، وأهم شيء إفتقارهم الشديد للكفاءة والمهنية .

اُسقِط في يدي ، لم أستطع مجادلته ، ندمت على ترديد قاعدة (لا يصح إلّا الصحيح) ، لقد ألقى عليّ حجة بالغة ، وتذكرتُ كم كنت ألحُّ على أبنائي ، وأسوقهم بإستمرار إلى مناضد المطالعة ، لقد فَهِمَ أولادي حال البلد كعامل النظافة ، وكنت أتبجح بهذه العبارة وكأنها سلاح ، ومرّت 18 عاما ، وطال أمَدُ ترقب العمل بهذه القاعدة حتى صدأت ، جيل بأكمله ، ونحن وسط شياطين تسلّطوا علينا ، فحجبوا النور عن هذه القاعدة فتشوّهت حروفها حتى صارت (لا يصح إلا الخطأ) ! ، تخرّجَ أبنائي من الجامعات ، ولم يجدوا مَتّسَعا ليشقّوا طريقهم ، بين المزوّرين والأميين من المرتشين ، وأصحاب المنسوبية والتحزّب ، عامل النظافة هذا ، يتحمّل عناء تخليصنا من الأزبال التي تحمل معها شيئا من أحزاننا ، دَفَنَ نفسه في النفايات ، لأجل نظافتنا ، فهل يوجد وجه مقارنة بينه وبين الآلاف من الطفيليات والفضائيين ، ممن لا نحصل منهم إلا المزيد من المعاناة ، وقد (أثروا) قيادييهم ومدرائهم ومسؤوليهم من تجار المناصب ؟ ، لاوالله ، إنهم لا يساوون قبّعة عامل النظافة ، ولا أقول (شيئا) آخرا ! ، فهذا يسعى لتنظيفنا ، وأولئك يوسّخون عقولنا ويسرقوننا ويدمّرون بيئتنا بل ومبادئنا ويكرّسون التخلف والأمية والقرارات المرتجلة التي أوصلتنا للهاوية بسبب قصر النظر الشديد والتخلف والطمع الذي لا يعرف حدودا لأولئك القيمين ، فالّذي أفهمه إننا لا نملك إقتصادا أصلا ، على الأقل من ناحية معايير إقتصاد الدول ، فكل شيء عندنا ، إن لم يكن مُهمَلا ، فهو مشوّه وإرتجالي وترقيعي وبعيد عن الدراسة ، وبنفس الوقت ، يشوبه الفساد والسّرقة على نطاق واسع ، أعلم جيدا أن الصادرات الوحيدة تقريبا للبلد هو النفط ، وتجاوز سعر برميل النفط 70 دولار ، والغريب (وليس غريبا على هذا البلد) ، أن قيمة العملة المحلّية لم توقف تدهورها ، لأني أعلم أن (رزيّة) تخفيض سعر صرف العملة المحلية ، والتي اصابتنا في الصميم ، فتحت الأبواب على مصاريعها ، للتدهور المستقبلي الذي لن يتوقف لتلك العملة ، وبقيت في نزول مع صعود سعر برميل النفط ، وما يرافق ذلك من غلاء دراماتيكي لا يشمل (النخبة) الحاكمة ، أية معادلة كسيحة هذه ؟ أفتونا يرحمكم الله .

حاولت أن أواسي هذا الشاب بحكمة (إذا أنت أمير وأنا أمير ، مَنْ يسوق الحمير) ، فكففت عن ذلك ، لأني حقيقة لا أعرف مَنْ يسوقُ مَنْ ! ، ولا أزال أجدُ نفسي غير متّفق مع مبدأ هذا الشاب ، فما زالت مؤمنا بقاعدة (لا يصح إلا الصحيح) ، وكأنها لعنة ! ، قاعدة ، أوجدتها تجارب إنسانية مريرة وطويلة ، عن حضارات سادت ثم بادت ، قاعدة فيها كل معاني التمدّن ، من الحقوق وأسرار العدل والإنسانية والإنصاف ، قاعدة طالما أخرجتنا من شريعة الغاب ، ورفعتنا فوق مجتمع الحيوانات أشواطا ، وعشنا ، ورأينا تآكل هذه القاعدة الذهبية ، حتى أفضى بنا هذا التآكل ، إلى أوج العصر الحجري !.