18 ديسمبر، 2024 11:16 م

عامر جاسم.. صورة العراق في المغترب

عامر جاسم.. صورة العراق في المغترب

يختل ميزان الثقافة والفنون في هذا العالم إن لم يكن جامعاً لكل إسهام إنساني حقيقي من كل بلاد الدنيا، فماذا نقول عن بلدٍ كالعراق متعدد الأعراق والثقافات والذي راكم الإرث الحضاري للبشرية مع العديد من حضاراتنا في بلاد الشام، أو اليمن، أو مصر أو السودان، أو كافة البلاد المغاربية بكل مواطنيها الذين تحتضنهم عدا عن بلادٍ كثيرة حول العالم..

ولأن هذا البلد أعطى على مدار تاريخه الكثير، ونثر من عراقته في عروق أبنائه فأنتجوا علماً وثقافةً وحضارة يشهد لها القاصي والداني، اعتدنا على بصمات مبدعيه في مختلف المجالات والميادين وسيكون أحدها التصوير الفوتوغرافي لأحكي عن أعمال أحد أهم أسمائه الفنان والمصور العراقي عامر جاسم..

فتجربته عبارة عن رحلة طويلة ممتدة بين الجذور الراسخة في العراق والمارة باللمسات السوريالية التي تستقر في أحضان الطبيعة والحب، محملةً بتجارب العمر التي تزداد نضجاً وبريقاً مع كل عملٍ جديد، فتأخذ بعداً إنسانياً عالمياً دون أن ينقص ذلك من أصالة وهوية موهبته العراقية بشكل ٍ بحت، فمن يتناول صوره من العراق لا يشعر أنها صور لمصور أجنبي أو سائح، بل هي صورة لشخص ينتمي فعلياً لهذه البيوت القديمة والشوارع والوجوه التي لفحتها شمس الأشجان، وتركت سمرتها على ملامحها كُقبلةٍ لا نهاية لها مع أن الدموع كثيراً ما رافقتها، دون أن تمس نكهتها المحلية التي تعطي للحزن قيمته بالقدر الذي تعطيه للفرح في مواويلها وأغانيها وبين ثنايا الكلمات التي تحمل رائحة البخور الذي يلف وجه العراق الحزين رغم جماله، وكأننا نسمع صوت الخطى في الطرقات أو نشيج المنازل المهجورة التي لا تزال تنبض بوجع وتدندن بصوتٍ خافت وكأنها تدخن سيجارتها في صمتٍ وخوف متواريةً عن الأنظار، باحثةً عن من يبحث عنها ويأخذها بين ذراعيه كطفلة ٍ هشة رغم وقوفها بثبات..

أما رحلاته التي عاد منها محملاً بالصور والأحاسيس والوجوه كما يعود المسافرون محملين بأشواقهم وهداياهم، فاستطاعت نقل المشاعر والإنفعالات والأحلام والهموم لأصحابها دون الحاجة إلى مترجم اعتماداً على لغة العيون التي لا تكذب مبحرةً في الحالة التي ترى تاريخها مكتوباً على جبينها بدون كلماتٍ، كونها تتواضع في حضور الروح التي تتولى سرد الحكاية رغم صمت الألسنة، وتبرز قدرات المصور على التقاط الشعور الذي قد يتبدل في ثوان ٍ ليحمل معه انطباعاً مغايراً بخفة الريشة لكنه بالغ الحساسية والعمق..

وتبدو لقطاته في أحضان الطبيعة والحياة اليومية في الشوارع كأنها تعبر عن رغبة أغلب العاشقين في العزلة ومحادثة كل ماهو وجداني لا ينتمي لعالم البشر ذوي الأفق المحدود بقيودٍ لا معنى لها، في لحظة تجلٍ ومحاكاة لأمنيات الطفولة التي تعود إلينا مجدداً بعد أن نقطع دروباً طويلة في رحلة الحياة، في ثوبٍ من الرصانة والنضج وتوازن العواطف وكأنها تلد القلب عارياً من جديد بعد أن تتغلغل في مشاعرنا وتتعتق في كل ذرة في كياننا، عاكسةً ثراء مخيلته وتجربته ونظرته التي تضيف إلى المشهد ولا تعتمد فقط على جمال المكان لإخراج لقطةٍ فنية رائعة بل يقدمه من وجهة نظره الخاصة..

ومع أن النفس تظل في ترحالٍ دائم إلا أن هناك مكاناً لا يغادرها، يستقر في أعماقها ويرسم لها خطواتها، فلا يفارقها وكأنه ظلها الذي نراه في كل ما تنجزه كما نرى العراق ونرى بغداد في كل عملٍ يحمل توقيع عامر جاسم جاعلاً من العالم عراقه الصغير، وناقلاّ العراق إلى قلب كل محب للأرض والفن والجمال كظلٍ يلازمه في الغربة وصورةٍ تذكرنا به..