عوالم لا تندثر ، ماكثة في أقبية النظر والذاكرة .
بين وهلة وأخرى تجيءُ ، بغنائية عفوية . تمرّ أمام البال : أزقة ضيّقة ، أبواب خشب مرصعة بنتوءات نحاس أو حديد . وفقاً لزخرفة هندسية أوعشواية . من هنا ، حيث أكمن أراهم ، تكتظ بهم ، بقاماتهم البضة، الشناشيلُ المفتوحة ، يتنقلون من شرفة الى أخرى ومن نافذة الى سواها . ارى كركراتهم المرصّعة بالفرح ، وأجسادهم وسيقانهم الصغيرة الخارقة البياض ، واقدامهم الحافية تنتهي باصابع رفيعة طرية . تارة يهبطون من عل ٍ ، وأخرى يصعدون الى طبقة أعلى. وجوهٌ قمرية صغيرة ستكون غداً شخصيات مرموقة . من هذه الدروب الحلزونية ذات الايقاع البغدادي خرجوا ، غدوا علامات حركّوا مقادير أيامنا . كنتُ ارى وجوههم تمرع في سنا الطفولة خللَ منمنمات ملونة متشظية وفق دوائر ومربعات ومستطيلات صغيرة ، تحيط بالوجوه ضحكاً وكركرة وابتسامة فرح خافتة . لكنها لا تحجبها عن نظري . هذه الدروب العراقية تتشابه وتختلف في كلّ محافظاتنا ، رأيتُ أمثالها في دروب كركوك : القورية ، صاركهية ، محلة المصلى وجقور . وكذا في أزقة القلعة . ولمثلها توائم في القشلة وفي العشار وشرايين البصرة القديمة . لكن أجملها ما رافق نهر العشار من ثانوية البنات حتي نهايات منطقة النظران .وثمة أزقة شبيهة بها في مدننا العراقية الأخرى التي أمدّت مجرى حياتنا بالمبدعين الخلاقين . وكلما مررت في درب تذكرتُ ذات الصورة . الوان منمنمات تغطي واجهة النظر . وأراني بعيداً في أطراف أخرى . شبه تائه اروم العود الى دروب الألفة . بيني وبغيتي مساحات جواباتُهم غامضة . ولطالما سالتُ هذا وذاك . بعضهم يرفع يده كما يطردني ، وآخرون لا يجيبون عن كل اسئلتي ، فتجيء مبتورة وعشوائية . أمر أمام دكاكين النجّارين ، والجزّارين والحدادين وباعة الخضار والحلوى والمخبز المزدحم بالناس .فيرميني شارع الى سواه . استمرّت المعاناة زمناً لا يمكن ضبطه في منطق الحلم . قلتُ مع نفسي : سامضي ابحث عن طريق يوصلني الى ملاذي . صعدت حافلة ركاب، كان الجابي كريماً فدلّني على المكان ، لكن ينبغي أن انتقل الى حافلة أخرى وأخرى . بعد دهر ، والزمنُ في مثل موقفي هلامٌ يفتقد منطقه . اعترفُ أني احسست خلال هذه الرحلة العجائبية أني غشيتُ دروب كلّ مدائننا من زاخو حتي ممالح الفاو . ما زالت الصور / صور الطفولة والوانها الباذخة / تنتظرني في حنية ما . فواصلتُ مسعاي ، في هذا العالم ليس ثمة تعبٌ ولا خضوع للوقت ، هو طوع يديك . يتمدّدُ ويتقلصُ نزولاً عند الرغبة . فولجدتُ مدارس ومعاهد ومساجد وألتقيتُ اناساً ما سألتهم عن شيء ولا سألوني مَنْ أكون . أخيراً وجدتُني في مبتدأ جولتي . فذي ذاتُ الوجوه المزدانة بالكركرات والفرح اليومي .اراهم صاعدين ونازلين ، وأرى أعمارهم البضة المتقاربة . ولوح ّ لي أكثرُ من يد . كنتُ عابر سبيل ، لكن بدوتُ صديقاً لهم لكثرة مكوثي وانا اراقبهم أملأ سمعي بصورهم الضاجّة . غادرتُهم ، بل غادرني المكان ورماني الى مصادفة أخرى …..
…………………….
فتسوقني قدماي هذه المرّة الى صقع آخر ، شارع طويل ما غشيته قبلاً ، ولا أدري الى أين يفضي بنا نحن الثلاثة الألى جمعنا الطريق ، فالذي على ميمنتي ليس صديقاً ، بل زميلاً من ايام التعليم تبوّأ مناصب عالية . كان عبثيّاً هيبيّاً يُمضي جلّ نهاره مع ثلاثة آخرين في لعب القمارفلم يحظوا باحترامي . لكنّه الآن نصفُ آدمي يعرج في مشيته منحني الظهر. هو يحمل حزمة أوراق ، فناولها الى زميلي على ميسرتي . فجاة توقف أمام محل لبيع الأقمشة : اذهبا أنتما وسالحق بكما . عندئذ اندلق من فوهة الدكان رجل له شكل افغاني ، تابّط ذراعه وعادا ليدورا وراء الدكان فولجا باباً لم اره . ومضينا أنا وصاحبي من دون أن نتحدّث . توقفنا أمام باب ، مدّ يده وناولني رزمة الورق : تستطيع قراءة بعض الأوراق ففيها نصوص مفيدة . اختفى الرجل وتهالكتُ متعباً على مقعد طويل . اروم تصفحها . ففي الورقة الأولى كتابات وخربشات تجريبية وعشوائية . وبصعوبة قرأتُ عبارة : قررتُ أن لا احلم بعد اليوم ولا اسجّل تفصيلاته . … استخففتُ بعبارته تلك ، كيف بوسع المرء أن لا يحلم ، الحلم جهة أخرى من الحياة . تجري الى جوارنا شئنا أم أبينا . اما الورقة الثانية والثالثة فقد كانتا رسالة طويلة من صديق له . لم اجرؤ على قراءتها ، وقلبتُ اوراقاً حتى عنّت واحدة كانت كتابتها مميّزة واشد عتاماً من بقية الخطوط . تنطوي على نص شعري حداثي ، ورُمتُ قراءتها غير أني اقصيتُ الى فراغ مجهول .لكنّ عينيّ التقطتا منها هذه العبارة : الصمتُ فضيلة لا يُدركها كلُّ أحد ، ورديفُه الصبر . علينا أن نُصغي أكثر ممّا نتكلم .