” الحياة ليست ما يعيشه احدنا، وانما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”. ماركيز/ عشتُ لأروي
غاب عن عالمنا ،في السابع عشر من نيسان 2014م:(غابريل غارسيا ماركيز)، الذي كان يحدق في الحاضر ، دون أن يتجاهل الماضي.( ماركيز) و أعماله كانت عن بلده (كولومبيا) وقارة أمريكا اللاتينية، وعن القسوة والعنف والتاريخ فيهما. من أعماله (عاصفة الأوراق)، التي تجسد عذاب وغربة الإنسان ، في عالم لا يفقه منه شيئاً ما .. غير ما يفرض على الطفل وما يراد منه، عند حضوره مراسم الجنازة. لكن- الطفل- يلاحظ باندهاش وببصيرة حادة ما يحدث بعد رحيل (المجهول).. متسائلاً: هل كان حقاً ،هذا المسجى: هو الدكتور ؟!. أم هو: مَنْ زَيفَ واستبدل كل شيء.. شخصه.. علاقاته السابقة .. ماضيه ؟!. و لم يستطع أن يتغلب على لحظة موته الواقعية .. مع بقاء حذائه وقبعته خارج التابوت؟!. تبدأ (عاصفة الأوراق) بملاحظات الطفل.. حول ما هو مطلوب منه في لحظة تحقق موت (الدكتور) الذي هبط إلى تلك المنطقة ليكافح الموت .. الموت الذي تمكن منه أخيراً . (الموت) ، الذي لا مفر منه : “فمنكم مّنْ يتوفى.. ومنكم مَنْ يرد إلى أرذل العمر.. كي لا يعلم من بعد علم شيئا”.(قرآن كريم). “عاصفة ألأوراق” الرمزية أو الفعلية تتحدث عن شخص و اسم – ربما- منتحل.. أو متخيل.ولكنه بات متحققاً عبر الموت.. فالموت ،عادة، مباغت..وغير مرغوب به.. لكنه عندما يحصل ، ذات لحظة ما،ويؤدي مهمته و يرحل.. يترك خلفه شيئاً واقعياً، يصبح اسمه (جثة). وعن تلك الجثة يقول الكولونيل: “لم أستطع أن أتأكد من أوراقه صحيحة أم لا..”؟!. ويضيف:”هذا الرجل كان عاش هنا خمس سنوات في هذا البيت “؟!. (عاصفة الأوراق).. مسرحها قرية (ماكوندو) التي خلقها (ماركيز) ، و الذي اكسب ما صنعه، عبر الروي والكلمات والوقائع والتاريخ بأحداثه الفعلية أو المتخيلة ، لحماً وشحماً ودماً ، عبر سماته الخاصة وقدراته الشخصية الفذة. حياة ووقائع لا تنس نهائياً. “من أجل دراسة رواية(عاصفة الأوراق) لابد من وضع تعريف للفضاء العام الذي تبدو فيه ونحدد الأثر الذي تركه عليها .. والفضاء هو كل هذا الفراغ الهائل الذي يحيط بنا ويمتد من حولنا مع امتداد مدى أبصارنا ويحدده مستويان هما الأرض والسماء”- الباحث علاء مشذوب . الواقع المفترض، أو المتخيل ، الذي تعيشه(ماكوندو) فضاء مصنوع بمهارة أهم وأرقى صناع الخيال البشري، في منتصف القرن المنصرم،:مصادفات ، خيانات، سرقات، ثأر متواصل، أمراض،فقر متوارث،تصورات ترتبط بالواقع الفظ ،والتاريخ واحباطاته، وثوراته ، وضحاياه، أحلام ودماء، وغرباء..لا أصل لهم ولا سلالات يرتبطون بها تاريخياً ..غير التواجد والذي يفرز الحب الخفي تارة ، والانتقام تارة أخرى. تبدو (ماكوندو)، بعد أن تركتها عاصفة الأوراق:” مدينة مهملة، بائسة، مدمرة نفسياً وروحياً. أبناؤها يستبطنهم الحقد والكراهية والدسائس الصغيرة والمؤامرات والتشوهات الخلقية. رحلت العاصفة وتركت المدينة متهالكة الشوارع، خربة، متهدمة البيوت”- (الروائي شاكر الأنباري). يربط (الأنباري )بينها ،و(عاصفة الصحراء) ، التي حلت بالعراق..وما تلاها و نتج عنها من أحداث، ودمار. فـهذا (العراق) لم يعرف الهدوء طوال تاريخه وعاش الاضطرابات والتحولات الصاخبة القاسية المريرة إذ تناهبه ،في الماضي والحاضر، بعض السياسيين والأفاقين وبرفقتهم:”صحافيين مغمورين استلموا رئاسات تحرير صحف ومراكز إعلامية وإذاعات وفضائيات جلبت كتاباً تخصصوا بجمع الخطب الدينية، والبلاغات القديمة، وأوصاف المراقد والمزارات، تخصصوا بفوائد الصلاة والأدعية والفتاوى وأنواع النكاح. ومنظمات مجتمع مدني تتخصص في كل زاوية من زوايا الحياة، منظمات للمرأة والطفل والمعوق والشهيد والسجين السياسي وضحايا الألغام والطلبة والشعراء الشعبيين والبيئة والأنهار والسماء والغازات السامة والمحامين والضباط القدماء وقتلى الحروب،والتهجير القسري. يستمدون أموالهم من أياد
خفية ومنظمات عالمية لا احد يعرف كيف يصلون إليها، ومن فرق جيوش أجنبية ومكاتب إعلامية ودوائر في السفارات وأحزاب ذات اتجاهات متعددة متناقضة، وحركات ذات مصطلحات جديدة على الذائقة الشعبية. منظمات تقيم مؤتمرات في فنادق فاخرة وصالات أعراس وأبهاء لمحافظات ووزارات وأحزاب ، من بين قادتها يتم انتخاب زعامات لمناصب في الدولة والأحزاب على هيئة مستشارين، ومدراء عامين، وخبراء في القانون الدولي، ومدراء لهيئات مستقلة وغير مستقلة تتكاثر في حقول الحياة العراقية، كما لو كانت فطراً نما بعد ليلة ماطرة “. ( عاصفة الأوراق) ، تبدأ بما تؤكده (انتيغونا) بأن جثمان (بولينيسيس) لن يدفنه احد ، و إن كل مَنْ تواتيه الجرأة على خرقه.. سيحكم عليه بالموت رمياً بالحجارة؟!. ترى أيشمل هذا الأمر (العراق) الذي يكاد يشرف على لفظ أنفاسه؟!. أم لا يحدث هذا إلا بعد (حَلـّبْ) كل ثرواته المادية ؟!. وتدمير بناه ومرتكزاته الروحية؟!. في أغلب ما أشهر(ماركيز) من روايات وقصص قصيرة، وتحقيقات صحفية، ومذكرات شخصية، وحوارات عامة، ينقلنا إلى مدن ومجتمعات ،و جماعات تعيش حياتها الراهنة ، لكن خيالاتها تنحصر ضمن مأزقها الواقعي وتسعى، بإصرار دائم ، نحو تذكر تاريخها وضمن تأويلاتها الخاصة، والتي لا يرقى بالنسبة إليها ، الشك والاختلاف، فـ:” الاختلافات لا تنحصر على الماضي وأحداثه، وليس على ما جرى فيه، بل تمتد ، لتختبر اللايقين في ما إذا كان ذلك الماضي، ماضياً فعلاً، منتهياً ، ومختتماً، أم ما يزال متحققاً ومستمراً.. ضمن أشكال، ورؤى، وممارسات متجددة ، قد تكون مختلفة في الشكل لكنها متوحدة في المضمون”؟!- (ادوارد سعيد) (الثقافة والامبريالية). ( عاصفة الأوراق) تتجه نحو سياحات متعددة في تاريخ وحاضر ومكونات(ماكوندو). يؤكد الطفل في نهاية مراسيم جنازة دكتور (ماكوندو):”..الأوان قد فات، فقد انتهى الرجال من آخر عمل بقي أمامهم،رفعوا قاماتهم وقد نبتت كعوبهم في ارض الغرفة..والتابوت يطفو في النور كما لو كانوا يحملون سفينة ميتة وهم في طريقهم إلى دفنها. أقول لنفسي: الآن سوف تشم الكرونات الرائحة.. وعندها سوف تنطلق كلها في وقت واحد…تـغـرد”. في رسالة وداعه لقرائه ومحبيه واعتزاله في بيته،بعد التأكد من مرضه الفتاك، قال ماركيز:”لو شاء الله أن يهبني شيئاً من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي .. ربما لن أقول كل ما أفكر به.. لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور ، سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكل نيام.لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق .. للطفـل سـوف أمنحه الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلم التحليق وحده ، وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان، لقد تعلمت منكم الكثير أيها: الـبـشر”. عام1981 قدم العراقي مصطفى عبود/ أبو النور/ ” عاصفة الأوراق ..لماركيز “، قبل أن يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982، عن أعماله، والتي يتم فيهم الجمع بين الخيال والواقع. (ماركيز) المعروف عالمياً وعربياً وعراقياً.. أما (مصطفى عبود) المولود في البصرة عام 1938 ، وأكمل دراسته الإعدادية فيها بتفوقٍ، ثم انتظم خلال منتصف الخمسينات، في (كلية التجارة- بغداد). و تخرج بدرجة الشرف الأولى. فقد هرب، في أواخر السبعينات، عن وطنه و أسرته الصغيرة ، والمجلات والصحف التي كان يدير تحريرها و يكتب أعمدته الصحفية اليومية السيسيو- ثقافية،فيها، باسم”أبو النور” ، وهو اسم ابنته البكر ، أو (م .ع) أو(م..) وأسماء صحفية أخر.توفي( مصطفى) كمداً وعذاباً على عراقه وبصرته التي خربتها الدكتاتورية والحروب الخاسرة- العبثية ، و دفن، منتصف التسعينات في (براغ). في السبعينات ترجم(مصطفى) لأهم كتاب العالم، عن اللغة الانجليزية ، والتي لم يتخصص فيها أكاديمياً.كما ترجم ( تحت أعواد) المشنقة ليوليوس فوتشيك، وحسب ما ذكره ، ليّ ذات جمعة ما، في مقهى (الدَكّة)، الكاتب والصحفي الراحل “عباس الرباط” ، زميله في “سجن نقرة السلمان”، إن (مصطفى) كتب في السجن وباللغة الإنجليزية ، مخطوطاً يتألف من حوالي (180)صفحة ،من القطع المتوسط ، عن الروائي والقاص”أرنست همنغواي” ، وعند تفتيش السجن دورياً تم مصادرته ، وحرقه ، بحجة انه من الممنوعات؟!.. لم تصلنا “عاصفة أوراق” ماركيز،إلا في عام (2008) بطبعتها الثانية والتي وزعتها مجاناً صحيفة (المدى) ضمن سلسة ( الكتاب للجميع) .