عرضت قناة ماكس الفضائية الأسبوع المنصرم فلم “عازف البيانو” وهو من إخراج (رومان بولانسكي) وأُنتِجَ في عام 2002 كما حقق (8.5) وفقا لتصويتات (IMDB) وهي من أشهر قواعد البيانات الرصينة والخاصة بالأفلام المعروضة على شبكة الانترنت. الفلم مدهش وفق جميع المعايير الفنية ,أخراجا وموسيقى وتمثيلا ونحن هنا لسنا بصدد معالجة جودة الفلم فهو أمرٌ مسلمٌ به. لكن الثيمة المطروحة فيه والكيفية التي تم التعاطي بها مع الأحداث تضفي بعدا دراميا يتشبث بواقعية بايوغرافيه متكلفة على أسطورة الاضطهاد النازي المنقطع النظير لليهود في أوربا الحرب العالمية الثانية. فالمخرج يحاول أن يؤصل للجذر التاريخي لهذه المذبحة المثيرة للجدل عبر اعتماده في كتابة السيناريو على قصة حياة (فالديك سبيلمان) عازف البيانو اليهودي. وهي تبقى قصة بايوغرافية بأمتياز ليس بوسعنا أن نجزم تاريخيا وعلميا أنها لم تُنسج من مخيلة كاتب السيرة في معظمها على الأقل!
غريبٌ أمر هذا الإصرار الهوليودي الذي تُظهره صناعة السينما الأمريكية عبر تأريخها على تركيز نوع من الأضواء الميكروسكوبية الفائقة الدقة على دقائق التفاصيل الدرامية لمحرقة اليهود أو الهولوكوست. فمجرد أن تجري جولة خاطفة على صفحات الشبكة العنكبوتية باحثا عن عدد الأفلام التي أنتجتها هوليود حول هذه المحرقة ستصفعك الأرقام على أم رأسك. إذ وفقاً للإحصائيات التي أجريتها بلغ عدد الأفلام ما يقارب (200) فلماً طويلا أنتجته هوليود حتى الآن ناهيك عن العدد الهائل للأفلام الوثائقية. واختلفت الجهات الممولة لإنتاج هذه الأفلام ولكن أغلبها تتراوح ما بين تمويل أمريكي خالص أو تمويل أمريكي إسرائيلي ألماني مشترك. وبوسعك مراجعة موسوعة الويكيبيديا حول هذا الأمر. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تكفلت هوليود بتجنيد فطاحل فن الإخراج السينمائي ليتكفلوا بتحقيق النجاح الحتمي لهذه الأفلام في شباك التذاكر, فتصدى لأجل ذلك مخرجون من قبيل (ستيفين سبيلبيرج/ أينشتاين صناعة السينما ولكنه لا يزال مخرجاً يهودياً) حيث أخرج فلم (قائمة شندلر) وكانت أصدائه منقطعة النظير على كافة المعايير الفنية والتجارية, و المخرج الإيطالي (روبيرتو بينيني) حيث أخرج فلم (الحياة جميلة) وهو وأن كان فلما ايطاليا إلا أنه كان تحت أشراف هوليودي تقني وتمويلي كامل, و (ستيفن دالدري) في فلمه (القارئ), و (كوينتن تارانتينو) الذي أخرج وكتب سيناريو (أوغاد مجهولون) وغيرهم كثير.
أن العلاقة بين السينما الهوليودية والهولوكوست تنتزع بامتياز التأسيس القيمي للـتأريخ بصفته سلسلة من الأحداث التي بوسع السينمائي (لاحظ لا المؤرخ) انتقاء ما يشاء منها ووضعها في صندوق كبير كتب عليه (تابو). أصبحت المحرقة تابو! هذا حتما ما نجم عن التحشيد الهائل لأموال دافعي الضرائب من الأمريكيين وغير الأمريكيين, فالهولوكوست باتت خارج التأريخ. أي خارج سياقات البحث العلمي والأكاديمي.أصبحت
أيقونه كُنسية لا يجرؤ أحد على المساس بها. وأن جَرؤ أحدٌ على ذلك انهالت على رأسه جميع مطارق محاكم التفتيش في أوربا القرون الوسطى, وحاصرته تحقيقات أمريكا المكارثية من جميع الجهات. فأوربا القرن الحادي والعشرين لا تتورع عن التنصل من جميع قيمها الحضارية في حرية التعبير عن الرأي والرأي الأخر أمام كل من يحاول أن يقدم قرأه تاريخية أكاديمية لهذه الحادثة المزعومة الأثر. والغريب أن الجميع يردد في أوربا اليوم ,وخاصة بعد حادثة صحيفة تشارلي أيبدو الفرنسية, عبارة (أن الأفكار لا حقوق لها . .الحقوق فقط للإنسان!). وبالتالي تسوقك هذه المقولة إلى النتيجة الحتمية لحرية نقد الأفكار دون أي خشية من أي ملاحقات قانونية أو بوليسية. ولكن أوربا النهضة العلمية المتقدمة, أوربا الدستور الفرنسي وأول بيان ينادي بحقوق الإنسان, أوربا غاليليو, وكوبرنيكوس, وفولتير, وفلوبير, وكانت, وديكارت تأبى ألا أن تتلفع بدشداشة وهابية قصيرة ومسبحة مولوية طويلة وتتمنطق بحزام ناسف لتنقض بوحشية إرهابية على جميع مفكريها وعلمائها ومؤرخيها حينما يزمعون على مجرد التعاطي الأولي مع حادثة الهولوكوست وفقاً لسياقات البحث العلمي التاريخي المعاصر. فقائمة محاكم التفتيش الأوربية المعاصرة طويلة:
فهذه ألمانيا قد شددت من عقوباتها بهذا الصدد في 1994، حيث أصبح إنكار المحرقة جريمة جنائية يعاقب عليها وفقا لقانون مكافحة التحريض العام،وشددت العقوبة في ألمانيا في العام نفسه إلى الحبس لـ5 سنوات كحد أقصى، والغرامة كحد أدنى للعقوبة. وعانى من تبعات هذا القانون الكثير من الألمان ومنهم على سبيل الحصر, (جيرمار رودولف) مواليد 1964 وهو كيميائي ألماني، عاقبته المحاكم الألمانية لمجرد إنكاره اللغوي للمحرقة، حيث أدانته محكمة مانيهايم وأنزلت فيه عقوبة الحبس لمدة عامين ونصف في 2007، ، حيث نشر مجموعة من المقالات عبر الانترنت تشكك في المحرقة، وأنكر وجود بقايا سجن أوشفيتس، أحد أشهر السجون النازية لليهود في بولندا, و (ارنست تسوندل) وهو ناشط يميني ألماني أُنزلت فيه العقوبة الأشد لإنكاره الهولوكوست عبر مواقع الانترنت أمام محكمة مانهايم، جنوب ألمانيا في 2007, كما عوقبت المحامية (سيلفيا شتولتز) بالسجن لـ3 أعوام ونصف، إضافة إلى منعها من مزاولة مهنتها لـ5 سنوات بتهمة إنكار الهولوكوست، مطلع 2008، نتيجة لإنكارها الهولوكوست خلال دفاعها عن (تسوندل) حيث أطلقت تصريحها الذائع الصيت “الهولوكوست أكبر كذبة في التاريخ”.
وهذه فرنسا القلب الحضاري النابض لأوربا, تحذو هي الأخرى حذو ألمانيا وتتسربل بلباس محاكم التفتيش وتُحرِق بنيرانها القانونية قائمة طويلة من مواطنيها لمجرد التصريح اللغوي بعدم قطعية الدلالة التأريخية حول الهولوكوست. فقوانين محاكم التفتيش الفرنسية تنص على تجريم أي فعل يوحي (وأؤكد على كلمة يوحي) بإنكار وقوع محرقة الهولوكوست التي تم إقرارها في محاكمات نورنبرج، وفقا لقانون تم إقراره في 1990، وهو ما عرف بقانون جيسو، باسم واضعه لوي جيسو. ومن الذين أُدينو نتيجة لتفعيل هذا القانون الكاتب والفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي), حيث عُوقب بالسجن مع إيقاف التنفيذ، إضافة إلى تغريمه 240 ألف فرنك فرنسي لإصداره كتاب أثار فيه بعضاً من الإشكاليات التاريخية حول مصداقية ما حدث في الهولوكوست وحجم المبالغات اليهودية عن محارق النازيين, وكتابه هو “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” عام 1996.
ويأتي (جان ماري لوبان) ثانيا بعد (غارودي), وهو والد السياسية الفرنسية اليمينية (ماري لوبان)، ومؤسس حزب الجبهة الوطنية، ومرشح الرئاسة الفرنسية 2007، عوقب في 1999، بغرامة توازي 6000 يورو، لقوله إن المحارق النازية لليهود “مجرد تفصيل تاريخي”. ثم تُشهر النمسا هي الأخرى صليب القرون الوسطى في وجه البحث العلمي وحرية التعبير عن الرأي وتُدشن منظومة قوانينها الجنائيه لتعاقب بالسجن لمدة تصل الى 10 أعوام كل مَن يُنكر المحرقة اليهودية وذلك وفقاً لتعديل القانون الصادر 1945 في 1992، نظرا لتشابه الظروف التاريخية المتعلقة بالنازية مع ألمانيا. ووضعت النمسا أكليل الشوك فوق رأس مؤرخها المعروف (ديفيد أرفينج) هذه المرة وأضرمت فيه النيران ليُحكَم بالسجن 3 أعوام في 2006 وذلك لإنكاره الهولوكوست والمحارق النازية بأفران الغاز مرتكزا في إنكاره إلى مبادئ البحث العلمي والتاريخي المعاصر. وقائمة الدول الأوربية وغير الأوربية تطول وتطول ولا يسعنا تناولها جميعا في هذه العجالة.
أن العالم الغربي برمته ينغمس في سلوك نكوصي غير مسبوق أمام كل ما من شأنه أن ينال من محرقة الهولوكوست لا بل ويكرس لنوع من الأنتقائية والدوغمائية في تفعيل مفردات منظومته القانونية. حتى أن هذه المنظومة تُفعّل على نحوٍ مبتسر وقرن أوسطي كلما أستيقظ تابو الهولوكوست في حين أنها تشيح بناظريها عن مذابح ومحارق لم يسبق للإنسانية أن شهدت مثيلا لها سواء من حيث الرعب الدموي الذي انطوت عليه أو من حيث تضافر الأدلة التاريخية القطعية على حدوثها. فأين انصرفت الماكنة السينمائية الهوليودية الرهيبة ومنظومة القوانين الأوربية عن مآسي ومذابح الأرمن التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى؟ مليون ونصف أرمني قُتِلوا مع أطفالهم ونسائهم في سيناريوهات مميتة ومرعبة لم تخطر حتى على بال أعتى النازيين في حكومة الفوهرر! أين انصرفوا عن مذبحة كاتين التي ارتكبتها حكومة ستالين وراح ضحيتها الآلاف من البولنديين؟ أين انصرفوا عن مذابح صبرا وشاتيلا 1982 والتي راح ضحيتها 3500 من النساء والأطفال والشيوخ حصراً والذين أُتخِمَت بجثثهم الآبار؟ وأين . .وأين . .وأين!
فأمام الأفلام المائتين التي أنتجتها هوليود عن الهولوكوست, لم يُنتج سوى فلم يتيم واحد عن مذبحة الأرمن وهو (القطع) وأخرجه الألماني التركي الأصل (فاتح آكين) بمشقة بالغة. أما مذبحة كاتين فلم تُنتِج هوليود أي فلمٍ عنها وأنما أنتجت بولندا البلد الأم لهذه المذبحة فلماً عنوانه (كاتين) أخرجه (أندريه فايدا) ولم ينل أي اهتمام يذكر رغم عرضه في ألمانيا ونيويورك ورغم السمعة الفنية الطيبة التي يتمتع بها مخرج هذا الفلم.أما الوضع القانوني للمذبحتين في أوربا وأمريكا فلا زال يراوح ضمن أروقة الاعترافات الرسمية بوقوع المذبحتين بصفتهما حدثين تاريخيين لا نزاع علمي حول وقوعهما.
أن جغرافيا مذابح الهولوكوست والأرمن وكاتين واحده: أوربا. الدليل التاريخي والتوثيقي والعدلي جميعها تقف علاماتٍ فارقةٍ تشخص فيها المذبحتين الأرمينية والبولندية على خارطة المذبح الإنساني المرعبة بتعرجاتها. في حين تنحسر إحداثيات الهولوكوست التاريخية والتوثيقية لتترك مجرد نُدبة طفيفة على سطح هذه الخارطة.
أياك أن تعلن ذلك على تربة أوربية أو أمريكية! أياك!