من بين جميع المشاهد التي رافقت تظاهرة الثلاثاء في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، مازالت صورة الرجل الذي يعتلي بياض الشيب رأسه تدور في مخيلتي، وهو يحمل بيده العلم ويتلقى الركلات من احد عناصر قوات مكافحة الشعب، قبل ان يهوي على الأرض رافضا خضوعه ليكررها مرة أخرى برفع العلم بوجه من أسقطه رغم كبر سنه، لينقل مشهدًا حقيقيًا عن مدى “الظلم والقسوة” والاستهانة بارواح “عباد الله” على يدي “عبيد السلطان” وأصحاب الكراسي الذين تغنوا باصوات الرصاص وهو ينطلق باتجاه صدور المتظاهرين السلميين، من الباحثين عن حياة حرة كريمة، وفرتها خيرات بلادهم ومنعها المتسلطون باسم الدين والديمقراطية.
لكن ما حصل من قمع للتظاهرات والدماء التي سالت بمباركة من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي سيذكرها التاريخ بسجله الأسود كوصمة “عار” لن تمحيها جميع بيانات الاستنكار أو الاعتذار، كيف يعقل ان يواجه شباب باحثون عن فرصة للعمل بالغاز المسيل للدموع والعيارات النارية التي ترفضها جميع القيم والمبادئ السماوية، في حين يصر “المطبلون” للسلطان على تبريرها باتهامات كانت حاضرة في جميع التظاهرات السابقة، بدايتها عن “المندسين” ولا تنتهي بالعمالة للأجنبي وإسقاط مشروع العملية السياسية، الذي لم “نجني” منه خلال 16 عاما غير، ضياع سيادة البلاد وتراجع الخدمات وارتفاع مستوى الفقر وسقوط المحافظات والمجازر الجماعية مرة على يد تنظيم القاعدة والأخرى باسلحة تنظيم داعش ومرة بايدي المليشيات المنفلته، التي لا نعلم كيف “فلتت” من القانون وجميع قياداتها وزعاماتها تشارك بالعملية السياسية.
ياسادة… ان ما أحزننا بعد مشهد الدماء والرصاص، بيان رئيس الوزراء الذي صيغت عباراته لمخاطبة مواطنين من كوكب اخر، لم يشاهدوا ما حصل في ساحة التحرير وأزقتها ومدينة الناصرية وأحياءها، فدولة الرئيس تحدث عن تبريرات لا يصدقها منطق العقل، وتناسى عبد المهدي ان المشاهد تناقلتها جميع وسائل الإعلام وبثتها مواقع التواصل الاجتماعي بصورة مباشرة، من دون اضافة أو تضليل، لكنه حاول التعامل مع المواطنين بطريقة “الاستغباء”، حينما ابلغنا بانه “يميز بين الضحايا سواء من المتظاهرين السلميين والقوات الامنية البطلة التي تحميهم، وبين المعتدين غير السلميين الذين رفعوا شعارات يعاقب عليها القانون لكونها تهدد النظام العام والسلم الأهلي، وتسببوا عمدًا بسقوط ضحايا من المتظاهرين الأبرياء، ومن القوات الامنية التي تعرض أفرادها للاعتداء طعنا بالسكاكين أو حرقا بالقنابل اليدوية”، وهنا نطرح بعض التساؤلات لدولة الرئيس، عن نوع الشعارات التي رفعها المتظاهرون، وهل المطالبة بإسقاطه بسبب “الفشل” تعتبر تهمة يعاقب عليها القانون؟، وهل يعتقد عبد المهدي بان وجوده سيحفظ السلم الأهلي ولن يهدد النظام العام؟، في حين كان اتهامه للمتظاهرين باستخدام السكاكين والقنابل، جزءا ً من مسرحية صيغت فصولها في العصور الوسطى وجرى اخراجها بشكل اقل ما يوصف بالسيئ.
ليشكل بيان عبد المهدي الذي اصر على استخدام ضحايا بدلا من كلمة “شهداء” لوصف المتظاهرين الذين سقطوا بنيران مكافحة الشغب، ادانة جديدة تظهر حجم “ضعفه” في ادارة الدولة وفقدانه السيطرة على اتخاذ المواقف والقرارات، التي حاول من خلالها مجاملة بعض الأطراف السياسية التي دعته إلى فتح تحقيق بالحادث، بعد تغريدة لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر موجهة للرئاسات الثلاث لإجراء تحقيق “عادل” بأحداث ساحة التحرير، لكن السيد الصدر لم يذكر كيف يطالب من لم يكن عادلا مع المتظاهرين بان يجيد العدالة في التحقيق،، صحيح ان السيد الصدر كان اول المبادرين، لكن هذا لا يعفيه من تحمل المسؤولية لكونه الركن الأساس باختيار عبد المهدي لمنصب رئيس الوزراء وتزكيته أمام المرجعية، وهذا يجعله أمام مسؤولية تحمل “إخفاقات” رئيس الوزراء وفشله بأول اختبار حقيقي لحكومته، فالمطالبة بالتحقيق العادل من “شخصية قاصرة” لا يكفي لإنصاف عوائل الشهداء والجرحى، لان حجم الكارثة يتطلب موقفا وطنيا “يصلح” اخطاء اختيار عبد المهدي.
الخلاصة… ان تعامل رئيس الوزراء مع المطالبة المشروعة “بالقمع والعنف” يدفعنا لتذكيره بأيام المعارضة حينما كان ورفاقه يرفعون شعار “المظلومية” ضد صدام ونظامه، ويشكون لدول العالم تعامله “المفرط بالقوة” مع حرية التعبير عن الرأي رغم ان معارضتهم كانت في أغلبيتها مسلحة وليست سلمية، لكن يبدوا ان عبد المهدي “يحن” هذه الأيام لجذوره البعثية وممارسة سلطة الدكتاتور… اخيرا السؤال الذي لابد منه… هل ستنهي دماء التحرير مسيرة “المنتفجي”،؟..