23 ديسمبر، 2024 6:12 ص

عائلة القيماقݘي … ثلاثة أطباء فنانين من بغداد ومعرضهم الاستذكاري في قاعة الأورفلي بعمّان

عائلة القيماقݘي … ثلاثة أطباء فنانين من بغداد ومعرضهم الاستذكاري في قاعة الأورفلي بعمّان

احتضنت قاعة الأورفلي للفنون في عمان مساء يوم الاثنين 22/4/2019، حدثًا فنّيًّا فريدًا من نوعه، مميّزًا بأسمائه، غريبًا في مواضيعه، غطّا جدران قاعتها الرحبة وأروقتها، فقد أقامت عائلة القيماقݘي، معرضًا لثلاثة من أبناءها، من جيل الرواد، هم ثلاثة أطباء موهوبين: إحسان، وأكرم، وأنور. أولاد أحمد القيماقݘي، الشخصية البغدادية الوقورة ومن وجهائها المعروفين، وهو عم الفريق الركن رفيق عارف، رئيس أركان الجيش في العهد الملكي وزوج ابنته لميعة، في نفس الوقت.
المعرض حمل عنوان:

(ثلاثي من بغداد … عائلة القيماقݘي)

نظّمَ هذا المعرض وأشرف عليه الأشقاء محمد ومؤيد وأحمد أولاد أنور القيماقݘي، إحياءًا لذكرى والدهم وعمّيهم وجدهم، وعرفانًا لمسيرتهم الفنية الطويلة، ولكي يطّلع هذا الجيل من العراقيين على الإرث العظيم للفنانين الرواد. لذلك فهو ليس معرض ربحي تجاري أو أن لوحاته معروض للبيع بقدر ما هو تحرير هذا الإرث العظيم من الجدران الحبيسة لبيوت العائلة وفك أسرها من خزائنها ونقلها إلى مديات أبعد وفضاءات أوسع، تسمح لعين الزائر التمتع بالفن الجميل واستذكار الماضي الأنيق لأخذ العبر والتجارب من عبق ذلك الزمن.
استمر جمعْ هذه الأعمال والمقتنيات الشخصية للعائلة ردحًا من الزمن، حتى نضجت فكرة إقامته في عمان في نسخته الثانية. يُذكر إن المعرض الأول أوته قاعة دفرنت (Different) وسط العاصمة البريطانية لندن منصف العام الماضي 2018. وهناك فكرة جادّة تراود الأشقاء باهتمام أيضًا لنقل هذا المعرض إلى العراق ودولة الأمارات ليطّلع عليه جمهور أكثر من العراقيين ومحبي الفن الأصيل.

عائلة القيماقݘي، عائلة عريقة بتاريخها، جاءت إلى بغداد قبل 400 سنة قادمة من مدينة خانقين وسكنت بداية القرن الماضي في محلة جديد حسن باشا، إحدى محلات بغداد المرموقة وقتئذ التي يعود تاريخها إلى العهد العثماني، وحملت هذا الاسم نسبة إلى والي بغداد، حسن باشا (1704-1723) في بيت كبير نسبيًا يطلّ صالونه على شارع الرشيد مباشرةً قرب جامع الحيدر خانة. وفي عام 1939، انتقلت العائلة إلى مدينة الأعظمية، في محلة نجيب باشا. وفيها أكمل هؤلاء الشباب الثلاثة تحصيلهم العلمي في الكلية الطبية الملكية العراقية، ونالوا تخصصات شتى وخدموا بلدهم بإحسن وجه.
في العراق الحديث وعلى مدى قرن كامل من تاريخه، برز العديد من أطباءه اللامعين بمهن ومواهب وهوايات أخرى إضافة إلى مهنة الطب، من أبرزها، الفنون التشكيلية بفروعها، التي امتهنها هؤلاء الثلاثة الأكارم، وشكلوا فريقًا عائليًا، وثّقوا العديد من الأعمال الفنية والشخوص والطبيعة العراقية على مدى نصف قرن من الزمن.
فالأخ الأكبر د. إحسان، (1907-1975) تخَصصَ في الأشعة وأول من أدخل الأشعة للعراق وأول مدير للأشعة في المستشفى الملكي، عشق فن النحت والتصوير الفوتوغرافي في وقت شهد اهتمامًا وتطورًا ملحوظًا بها من قبل الشباب. وله توثيق نادر للعديد من مدن العراق ولقطات من الحياة العائلية والأصدقاء.
أما الأبن الثاني د. أكرم، (1909-1979) تخصّص جراحة عامة، ومن الأوائل على دفعته في الكلية. عمل في مستشفى الكرخ والراهبات. فقد تتلمذ على يد أحد أبرز فناني العراق في الفن التشكيلي هو الرسام الكبير عبد القادر الرسام، وهو صديق مقرّب لوالدهم مما مكنه من تعلّم فنونها وأسرارها وقد برزت موهبته الفذّة في هذا المضمار وبرع فيها من خلال الرسم بالزيت على الكانفاس وبأسلوب واقعي متقن حيث جمع بين المحلية والعالمية، حتى أنشأ أستوديو في بيته يزاول هوايته فيها وبقيَّ يمارس فن الرسم إلى آخر أيام حياته.
والشقيق الأصغر د. أنور، (1914-1996) تخصّص بالولادة والنسائية، وعملَ في المستشفى الملكي، ومديرًا لمستشفى الهلال الأحمر، ومستشفى الفردوس. شغِفَ فن الرسم الكاريكاتوري وتميزت رسوماته بقوة التخطيط مستخدمًا القلم الرصاص والحبر الأسود وعشق أيضًا الرسم بالألوان المائية متأثرًا بصديق العائلة سعاد سليم (شقيق جواد ونزار سليم) وكذلك مدرسة الفنان عبد الكريم محمود، حيث وثّق عددًا من الوجوه العراقية السياسية والعالمية مرورًا بوجوه العائلة والأقارب والأصدقاء.

لذلك فإن هؤلاء الموهوبين الثلاثة تركوا بصمة واضحة في مجال الفن وبرزوا فيها بحرفية عالية كرواد أوائل لهذه الحركة، بعد تأسيس الدولة العراقية، إضافة إلى تفوقهم في مجال الطب البشري.
معرض (ثلاثي من بغداد … عائلة القيماقݘي) في قاعة الأورفلي، افتتحته السفيرة العراقية في الأردن السيدة صفية السهيل، وحضره جمهور مخملي غفير من أبناء الجالية العراقية في الأردن وضيوفهم، ومن متذوقين الفن التشكيلي العراقي والفن بصورة عامة، غصّت بهم قاعة المعرض.
ضمَّ المعرض على دفّات جدرانه، العديد من اللوحات الفنية، وكل حسب توجهه الأخوة الثلاثة واهتمامه، لكن تصدّرت مقدمة المعرض أربعة لوحات بريشة أربعة من عمالقة الرسم في العراق وأبرزهم وهم عبد القادر الرسام، وفائق حسن، ونوري الراوي وسعاد سليم، مهداة لرب العائلة المرحوم أحمد، وهذه اللوحات أصلية ونادرة لا تقدّر بثمن في يومنا هذا باي حال من الأحوال. أما اللوحات الزيتية فقد بلغت سبعة وعشرين لوحة بإحجام متقاربة رُسمت بريشة الأبن الثاني الدكتور أكرم، وفيها تعبير صادق عن الواقعية وتميّزت بدفء اللون ووضوح الفكرة والتعبير…!
في جانب آخر من المعرض عُرضت أكثر من خمسة وتسعين صورة فوتوغرافية جمعتها عدسة الدكتور إحسان، وثّقت بمجملها طبيعة الحياة العراقية، خلال القرن الماضي في البر والنهر ومواقع تاريخية، وأحداث سياسية، أهمها ملف صوري لمسيرة تتويج الملك فيصل الثاني في شوارع بغداد عام 1953، وغيرها من الصور ذات الأصالة والعراقة معًا، تجعلك تقف أمام كل صورة باهتمام وتركيز ويأخذك الحنين والخيال للماضي البسيط وعبقه…!
كما ضمَّت القاعة الثانية للمعرض أكثر من 80 لوحة، رسمت بقلم الرصاص تارةً، وبالحبر الصيني تارةً أخرى، بأنامل الشقيق الأصغر للعائلة الدكتور أنور. تميّزت هذه الصور بكاركتوريتها المعبّرة ورمزيتها لشخصيات سياسية وبرلمانية معروفة خلال حقبة العهد الملكي وأيضًا لأصدقاء مقربين له وزملاءه في الدراسة، أيام تخصصه الطبي في لندن. أما لوحاته المائية فطرزت جدران القاعة أربعة لوحات متفرقة في الموضوع … والمعنى … واللون…!
قُدّم في المعرض أيضًا كتاب أنيق في هيكله وشامل في تصميمه، طبعته دار الأديب البغدادية، احتوى بين دفّتيه على كل الصور المعروضة في المعرض، كتوثيق وَرَقي، يُزيّن المكتبة البيتية، وجَسّدت صفحات الكتاب أيضًا السيرة التاريخية العطرة للعائلة.
ومن طريف الكلام أن بيت عائلة القيماقݘي في الأعظمية كان ملاصق من الخلف لبيت جدي المرحوم فتحي صفوت، وكانت العلاقة بينهما عائلية وحميمة، حيث للسيد أحمد القيماقݘي، مجلس ثقافي أسبوعي في صالون بيته، كان يرتاده جدي مع نخبة من الشخصيات الأدبية ووجهاء مدينة بغداد، أبرزهم الوجيه ياسين باشا الخضيري، الذي تصاهر ابنه الدكتور أنور مع حفيدته لاحقًا.
في أحد تلك الأيام الخالية زار الدكتور أكرم، جدي فنان النحت فتحي صفوت في مشغله في بيته -وهو أول نحات في العراق-لعمل تمثال نصفي له، فاستلقى الدكتور أكرم على طاولة العمل وغطّى وجهه بمادة الجبس البيض لعمل قناع سلبي لتقاطيعه وجهه ومن ثُمَّ بدءَ بعدها بإكمال بقية تفاصيل التمثال حتى أنجزه بعد أيام وأهداه له، تعبيرًا عن عمق المودّة وحسن الجيرة بين العائلتين. وللأسف لم أحضِ بمشاهدة هذا التمثال ولا صوره له في هذا المعرض، ولم يبقى له أي أثر حتى لدى عائلة القيماقݘي، وأولاده وأحفاده.

رحمَ الله هذه العائلة العريقة المتميزة والموهوبة: الجد الكبير حسين، والأبن الوجيه أحمد وأولاده الأطباء إحسان، وأكرم، وأنور، وأحفاده الأبرار محمد، ومؤيد، والدكتور أحمد، وأبناء الأبناء ومن بعدهم إلى يوم يبعثون.