23 ديسمبر، 2024 10:41 ص

عائلة الرئيس “عبدالسلام عارف” أواسط الستينيات

عائلة الرئيس “عبدالسلام عارف” أواسط الستينيات

كانت عائلة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” مكوّنة من زوجته، التي أنجبت له سبعة أولاد، أربع بنات وثلاثة بَنين… هم على التوالي “وفاء، رجاء، سناء، أحمد، جلاء، والتوأمان محمد ومحمود”

زوجــتــــه

لم أتعرّف على إسم “أم أحمد” طيلة السنتين اللتين قضيتهما في الخدمة بالحرس الجمهوري، ولكن إبنتها السيدة “وفاء عبدالسلام محمد عارف” أوضحت لي لدى زيارتي لمسكنها بحضور زوجها وإبن عمّها “العقيد الطيار المتقاعد صلاح عبدالسميع محمد عارف” في “حي اليرموك” ببغداد مساء (الثلاثاء1/4/1997) أن إسم والدتها “ناهدة حسين فريد الرَيِّس”.

كانت إمرأة في حدود الأربعين من العمر، ولربما لم تكن تتقن القراءة والكتابة.. لم أرَ سوى وجهها طيلة عشرات المرات التي رابطتُ خلالها لحماية مسكنها خلال سنتين من خدمتي في الحرس الجمهوري.. كانت متوسطة الجمال والقوام، ترتدي العباءة السوداء العراقية، سواءً عند خروجها من البيت لزيارة جاراتها أو لدى إستدعائها -بكل أدب وأصول وأخلاق- لأحد الجنود الحراس الى باب حديقة دارها لتكليفه بشيء ما،..

لم تستدعني غير مرة واحدة الى باب الحديقة لتشكو لي بصوت خافت عن تصرّف غير مقبول لأحد الجنود مع إبنة جارة قريبة، إذْ بعثتـُه مع كامل ملابسه وتجهيزاته وسلاحه شبه موقوف الى مساعد آمر الفوج بسيارة الأرزاق ظهر اليوم نفسه.. ولم تتم معاقبته فحسب، بل نُقِلَ إلى خارج وحدات الحرس الجمهوري فوراً.

كانت “أم أحمد” تبقى وحيدة في منزلها منذ الصباح حين يغادرها الأولاد جميعاً الى مدارسهم حتى يعودوا ظهراً… لم ألاحظ تركها لدارها إلاّ مرات قليلة لزيارات الجارات القريبات، ولم تكن تتنقل بسيارة العائلة مع السائق لوحدها بشكل مطلق إلاّ بصحبة أحد أولادها، ولم أسمع لغواً أو صياحاً مع زوجها رغم ما كان يُشاع لدى عامة الناس أنهما على غير وفاق، ولكنها لم تكن تجلس مع الأولاد في الحديقة عندما يكون “عبدالسلام عارف” معهم، ولربّما يكون هذا التصرف قد فرضه “أبو أحمد” عليها لسبب أو لآخر… وقد شاهدتُ خروجها مع إحدى بناتها أو بنينها، أو جميعهم معاً بسيارة العائلة وسائقهم “أحمد الكرخي” لزيارة الأقارب أو الأصدقاء

البعيدين، ولكننا لم نكن على معرفة بوجهتهم، فليس من واجبنا ذلك… إلاّ أن إحدى البنات كانت تحضر الى مكتبي للإتصال هاتفياً بأبيها مباشرة لإخباره بذهاب العائلة الى بيت “فلان”… وما أكثر الزائرات اللواتي كُنَّ يحضرن إليها سواءً من الجارات أو القريبات… وكيف لا؟ فهي زوجة رئيس الجمهورية، والتي يفترض أن تسمّى “السيدة الأولى” -كما هو متعارف في معظم بلدان العالم- وكانت إحدى أقرب صديقاتها التي تتزاور معها يومياً إمرأة في مثل عمرها إسمها “أم صباح” الساكنة في الركن المقابل للدار.

الإبنة البِكر “وفاء”

كانت “وفاء” -الإبنة الكبرى- متزوجة من إبن عمها “ملازم أول طيار صلاح عبدالسميع محمد عارف” الذي كان طياراً على طائرة قاصفة من طراز “إليوشن-28” في “مطار “كركوك العسكري”، وكانا يسكنان في إحدى دور الضباط التابعة للقاعدة المذكورة، ولم يكونا يزوران “بغداد” إلاّ عند تمتّع الزوج بإجازة، ويحضران مع إبنتهما الوحيدة “نادية” في دار رئيس الجمهورية… ولم ألاحظ خلال فترات مهماتي مبيت “وفاء” في بيت والدها مطلقاً… وقد علمتُ أنها تنزل في مسكن عمّها “عبدالسميع”… ولكني لم أُُقابلها أو أرى وجهها عن قرب.

رجاء عبدالسلام

أما “رجاء” فقد كانت فتاة في ربيعها السادس عشر، متوسطة القامة والبنية، بيضاء البشرة، جملية يانعة، أنيقة يافعة، تلميذة في الصف الرابع العلمي، مؤدبة وخلوقة يتمناها كل شاب.

كانت تحضر مع أخيها “أحمد” أو شقيقتها “سناء” عادة يومياً كي تهاتف أباها أو إحدى صديقاتها أو قريباتها، إذْ كنت أترك المكتب لأتجوّل خارجه ريثما تفرغ وتخرج… وفي كل المرات كانت تعتذر عن الإزعاج الذي سببّته لي، وتشكرني، وخصوصاً عند إطالتها للمكالمة على عادة جميع نساء العالم، وليس العراق فحسب… وكانت تزور بنات الجيران القريبات بصحبة “سناء” أو “جلاء” كثيراً، وبالأخص في أيام الجمعة أو العطل.

سناء عبدالسلام

كانت “سناء” في الثالثة عشرة من عمرها، لونها مائل الى السُمرة، متوسطة القوام والبنية، طالبة في الصف الأول المتوسط، مؤدبة وذات أخلاق عالية حتى تبدو

أكبر من عمرها، تصاحب شقيقتها “رجاء” دائماً، ولكنها كانت تحضر لوحدها بعض المرات للإتصال بالهاتف، وكانت علاقتها مع أخيها “أحمد” سلبية، ولطالما سمعت صياحهما في حديقة الدار، والذي كان يخفت بتدخل الوالدة عادة.

أحمد عبدالسلام

إما “أحمد” الذي كان يبلغ من العمر إحدى عشر سنة، أبيض البشرة، متوسط القامة والبنية، ذا وجه جذاب دائم الإبتسامة، غاية في الأدب والأخلاق والأصول، طالب في الصف السادس الابتدائي في حينه.

كان حضوره في مكتبي وقت العصر، إذْ يهاتف أباه، ويطيل في ذلك بعض الشي، حتى ينبّهه والده ليكفّ.

يهوى العسكرية ويتلهّف للتعرف على الأسلحة، ولكن الرئيس “عبدالسلام عارف” قد نبَّهَنا مراراً بعدم إفساح المجال له لمسك سلاح بين يديه ويأمرنا بعدم مجاملته كثيراً.

كان “أحمد عبدالسلام” شغوفاً بالدراسة، ذكياً في طروحاته وإستفساراته وتساؤلاته، وطالما كان يتمشى معي داخل الثكنة لينهال عليّ بوابل من الأسئلة المتعلقة بالأسلحة وأنواع الطائرات والدبابات وطُرُزها، وكذلك عن العلوم والتأريخ والجغرافيا عند عدم وجود والده في البيت، وبالأخص في أيام العطل الرسمية… وبشكل عام لم يكن ميالاً إلى اللعب مع أولاد الجيران في الشارع.

الآخرون الصغــار

أما الصغار “جلاء” والتوأمان “محمد ومحمود” فقد كانوا في الصفوف الأولى من الدراسة الابتدائية وقلّما كنتُ أراهم، لذلك فلم أتعرّف عليهم عن قرب.

كانت عائلة “عبدالسلام عارف” ميّالة لمشاهدة عروض الأفلام الجديدة في دور السينما -أسوة بمعظم العوائل الراقية ببغداد- وكان سائقهم يقلّهم بالسيارة الخاصة ألى “سينما الخَيّـام” -أحدث دور سينمات بغداد وأرقاها في حينه- لحضور عرض فلم أجنبي جيد وقت العصر أو خلال الدَور الأول مساءً… وقد صادفتُهم جميعاً مرات عديدة وهم جالسون في “مقصورتَين” بين مقصورات الطابق العلوي من الصالة، إحداهما للبنات وأُمهنّ، والثانية للبنين، بينما كان “السائق” يجلس على مقربة من المقصورتَين في الصف الأول من مقاعد الصالة… ولربما كان الجمهور هناك -وهم من الناس الإعتياديين- لا ينتبهون إليهم ولا يتصورونهم عائلة رئيس الجمهورية، أو هم لا يبتغون الإكتراث لمثل هذا الأمر كثيراً.

سائق العائلة الحاج أحمد الكرخي

كان “الحاج أحمد الكَرخي/أبو شهاب” قد جاوز الخمسين من عمره، إذْ عمل جندياً سائقاً ثم ضابط صف سائق مع شخص “عبدالسلام عارف” وقتما كان ضابطاً في وحدات الجيش، وكان هو سائق سيارته العسكرية حين أصبح آمر فوج برتبة “مقدم ركن” و”عقيد ركن”، بل وقاد سيارته العسكرية ايضاً حينما دخل “بغداد” صبيحة (14تموز 1958) لتفجير ما سمّي بـ”الثورة”، وقد أُحيل على التقاعد لبلوغه السن القانونية (45 سنة) برتبة “رأس عرفاء وحدة آلي” -ويعادل رتبة نائب ضابط- وظلّ على زياراته لـ”عبدالسلام عارف” خلال سنوات سجنه أو عند شبه الإقامة الجبرية المفروضة عليه لغاية (14رمضان/8شباط1963)… لذلك قرر “رئيس الجمهورية” أن يجعله سائقاً لسيارته الشخصية التي تخدم العائلة، ناهيك عن حسن سيرته وأخلاقه العالية.

كانت هذه السيارة ملكاً خاصاً لـ”عبدالسلام عارف” مسجّلة بإسمه، وقد إقتناها مطلع عام (1963) بعد خروجه من السجن، وكانت من طراز “مرسيدس-220″… سمائي اللون، وقد بُني لأجل إيوائها “كراج” صغير قرب باب الحديقة، وأُنشئ فوقه غرفة بالمساحة نفسها لمبيت السائق عند اللزوم.

كان “الحاج أحمد الكرخي” غاية في الخُلق والأدب، طويل القامة، رشيق البنية، وقد غزا الشيب قسماً من شعر رأسه، متجهّم الوجه غير مبتسم، يحسبه الناظر متكبراً في أُُولى اللقاءات وقد يتّهمه بالغطرسة لكونه سائق رئيس الجمهورية، إلاّ أنه سيكتشف أن ذلك طبيعة خَلقه..

كان نشيطاً في عمله، جدّياً في حركاته، حريصاً على خدمة السيارة طوال النهار، لا يعرف المزاح أو النُكتة.. وأنه على الرغم من كونه “نائب ضابط متقاعد” يرتدي الملابس المدنية، فأنه لم يقف أمامي -وأنا الضابط الحدث برتبة “ملازم”- إلاّ بالإستعداد… وقلّما كان يرفع نظره نحو عيني.

كان من عادته التمشّي مع عريف فصيل الحماية داخل الثكنة وخارجها، وخصوصاً لدى شعوره بالوحدة والملل في غرفة مبيته فوق “الكراج”، إذْ لم يكن يختلط بأي شخص من الجيران أو سكنة المنطقة… وكان يتناول وجبات طعامه هناك بعد أن يتسلّمها من يدي “أحمد” نجل الرئيس، أو من إحدى البنات.

كان حضوره في “الكراج” قبيل الساعة السابعة صباحاً، في الصيف أو الشتاء، إذْ يُخرِج السيارة ليوقفها قريبة من باب الحديقة… وبُعَيدَ السابعة والنصف يستقل أولاد الرئيس السيارة لينقلهم الى مدارسهم قبل أن يعود في حدود الثامنة، ليخرج مرة أخرى لشراء اللحم والخضروات والفواكه، إذْ يرجع ليبقى بلا عمل عادة حتى الظهر حين يعود بالأولاد جميعاً من مدارسهم.

كان يقضي الظهر في غرفته حتى بعد صلاة العصر، فإذا رغبت العائلة أو الأولاد بالخروج فأنه يتكلّف بذلك، وإلاّ يُدخِل السيارة إلى “الكراج” ويغادر إلى مسكنه الذي لم أعرف موقعه… أما إذا حضر رئيس الجمهورية الى الدار، فأنه يبقى ملازماً فيها حتى يغادر، واذا ما رغب الرئيس أن يبيت ليلاً في بيته، فأن “الحاج أحمد” يبيت في الغرفة الصغيرة الخاصة.

كان راتبه الشهري -البالغ (25) ديناراً- يدفعه “عبدالسلام عارف” من جيبه الخاص، حسبما أعلمني “الحاج أحمد” شخصياً، بينما يبلغ راتبه التقاعدي (38) ديناراً، وكان يُفصّل بدلة شتوية وأُخرى صيفية على نفقة رئيس الجمهورية سنوياً، إذْ لم يكن يرتدي القميص والسروال لوحدهما حتى في أشد أيام الصيف حرارة، وذلك من أجل إضفاء بعض الوقار على شخص “سائق رئيس الجمهورية”، وليخفي “المسدس براوننك” الذي كان يحمله دائماً تحت السترة.

أخوة رئيس الجمهورية

كان “الملازم المتقاعد عبدالسميع” أكبر الأخوة، يمتلك “مكوى النعمان” الواقع على “شارع الإمام الأعظم” وعلى مقربة من “كازينو النعمان”… لم أقابله مطلقاً، ولم يصادف أن زار دار أخيه خلال أي تواجد لي في مهمة الحماية، ولم أعرف -عن بعد- غير نجله “ملازم أول طيار صلاح” الذي كان صهر “عبدالسلام” كما أسلفت.

أما “اللواء عبدالرحمن محمد عارف” فهو الأخ الثاني، أكبر عمراً من “عبدالسلام”، إلاّ أن الأخير سبقه في الدراسة والقبول في الكلية العسكرية… وكان يشغل منصب “رئيس أركان الجيش وكالة” في حينه، إذْ لم يُثَبَّت بهذا المنصب الرفيع أصالةً لأسباب قانونية، وذلك لعدم إشتراكه بدورة في كلية الأركان… ومثلما كان عليه الحال مع السيد “عبدالسميع”، فأنني لم أُلاحظ شخصياً أية زيارة له أو لعائلته لدار أخيه.

كان “صباح محمد عارف” أخوهم الأصغر، و”مُدلّل العائلة المالكة!!!” -كما كان يحلو لبعض المعارضين تسميته إستهزاءً بالنظام-… تخرّج في كلية الحقوق ببغداد، متوسط القامة والبنية، جميل المنظر، صديقاً لأولاد “عبدالسلام” أكثر من كونه مجرد عمّ لهم.. يحضر الى البيت لوحده، إذْ كان ما زال عازباً، وكانوا يرحّبون به بحرارة، ويركض البنون والبنات نحوه ويتحاضنون معه ويقبّلونه ويقبّلهم. ولطالما كنتُ أسمع مزاحاتهم في حديقة الدار، ويخرج بالأولاد وصغار البنات عادة بسيارته الشخصية الصغيرة المتواضعة من طراز “فولكس واكون”.

كان “صباح عارف” يشغل منصب “الكاتب العدل” ضمن مجمع المحاكم الواقع على “كورنيش الأعظمية”، ولا يرتدي إلاّ بذلة أنيقة حتى في صيف العراق القارض، ويحمل مسدساً تحت سترته… ذلك المسدس الذي كان حديث البعض من الناس الذين كانوا يتهامسون فيما لو كان من حقّ أخٍ مدني لرئيس الجمهورية أن يحمل مسدساً؟؟؟ ولكني علمتُ من السائق “الحاج أحمد” أن “صباح محمد عارف” قد حصل على إجازة رسمية من الشرطة لحمل ذلك المسدس كونه “كاتب عدل” له مساس بمشكلات ومصالحهم الناس يومياً.

أما “عبدالسلام عارف” فقد كان يعتبره “شاباً متهوراً” لعدم تمسّكه بأصول الدين والصلاة، لذلك فلم يكن على وفاق كثير معه.

وكانت لي مفارقة -بالصدفة- مع السيد “صباح” ومسدسه الخاص… ففي أحد أيام صيف (1965) جاءني صديق يحتاج تسهيلاً لمشكلته لدى المحكمة الشرعية لقضاء الأعظمية، وكان لي قريب هناك يشغل منصب “كاتب أول” لدى المحكمة نفسها، إسمه “كامل حسين/أبو مؤيد” يشتهر بمزاجه المتعكر وتدخينه لـ(100) سيكارة أو أكثر يومياً،… وعندما دخلتُ مكتب “أبا مؤيد” وجدتـُه خالياً، حيث أفاد أحد موظفيه أنه في زيارة لـ”الكاتب العدل”، فتوجهت مع ذلك الصديق الى تلك الدائرة.. ولدى إقترابنا منها سمعتُ صراخاً، سرعان ما إكتشفت أنه صادر من حنجرة “أبي مؤيد” لا غيرها، حتى فتحتُ باب الغرفة لأجد “صباح محمد عارف” جالساً على كرسي مكتبه و”أبا مؤيد” واقف ويداه متّكِئَتان على المنضدة، وهو يوجّه كلاماً جارحاً وبصوت عالٍ نحو “صباح”، كان آخر عبارته:-((لا تتمضحك يا (؟؟؟؟؟؟) فأني أنصحك أن لا تحسب نفسك أخاً لرئيس جمهورية، فالمسدس الذي تحمله على جنبك سأضعه في (؟؟؟؟؟) لو لم تكمل الآن ما كلّفتك به))… بينما “صباح” يبتسم قائلاً:-((حسناً، حسناً يا أبا مؤيد، طلباتك أوامر، فأنت الأكبر عمراً، وأنا أخوك الصغير”… أوانئذ خرج “أبو مؤيد” معي وهو -فوق كل ذلك- غير راضٍ عن موقف “صباح”، وظلّ يتمتم طوال إجتيازنا الممر المؤدي إلى غرفته.

والحقيقة إنني لم أُُقابله أو أتعرّف عليه عن قرب، فقد كان يزور بيت رئيس الجمهورية عند عدم تواجده، ولم يكن -إستناداً إلى التعليمات- خاضعاً لمساءلة عند إيقافه لسيارته المتواضعة أمام باب الحديقة مباشرة.

زيارات الأقارب والأصدقاء

لم أُشاهد بأم عيني أن زار صديق أو قريب رئيس الجمهورية لدى حضوره في بيته، عدا بعض الجيران الذين كانوا يجلسون معه في الحديقة أو داخل البيت لدقائق معدودات… فلربما كانوا يقدّرون محدودية أوقاته وكثرة مشاغله وضرورة تفرّغه مع أفراد عائلته خلال تلك السويعات.

إلاّ أن البعض منهم كانوا يُؤقّتون حضورهم قرب باب الدار مع مغادرته إياها، وخصوصاً عندما يشاهدون “الموكب” وقد حضر.. وكان “عبدالسلام عارف”، بعد بعض عبارات المجاملة، يتسلّم منهم عرائضهم أو رسائلهم الشخصية المهيّأة سلفاً قبل أن يسلّمها الى مرافقه الشخصي… بينما كنا -نحن آمري فصيل الحماية- نتسلّم العرائض من المواطنين، مهما كانت صفتهم، ونجمعها قبل أن نسلّمها باليد الى “المرافق” ومن دون أن نتتبّع مصيرها أو الإجراءات المتخذة بحقّها.

زائرو آمر قوة الحماية

كان لآمر فصيل الحماية مطلق الحرية لإستقبال أي صديق أو قريب له في مكتبه والجلوس معهم في حديقة الثكنة، وخصوصاً عند عدم حضور رئيس الجمهورية في بيته، ويقضي معهم ساعات طويلة وقد يجلب لهم الطعام من أحد المطاعم القريبة.

وقد تَعوَّد معظم أصدقائي على الحضور لزيارتي بمعدل يومي، وأذكر منهم على سبيل المثال:-“نجدت قاسم الصالحي، محمد أحمد الخطيب، ، الملازم أول الطيار مسرور بهاء الدين قوجاق، الملازم المظلي عصمت صابر عمر، الملازم الملاّح نهاد إسماعيل حقي، وهبي شاكر مصطفى”.

لم تكن وجبات الطعام تصل ضابط الحماية من مطعم ضباط الفوج، إذْ كنا نبعث لشراء طعام لنا وضيوفنا من مطاعم الأعظمية وعلى نفقتنا الخاصة… ولم نكن نتقبّل مطلقاً أية وجبة من عائلة “رئيس الجمهورية”، على الرغم من إلحاح السيدة “أم أحمد” -في بعض المرات- عن طريق السائق “الحاج أحمد”، وخصوصاً في أيام الجُمعة أو الأعياد والعطل الرسمية.

إمتعاض الناس من إجراءات الحماية

كنتُ أتلمّس أثناء إتخاذنا لإجراءات حماية هذا المسكن، وخصوصاً عند وجود السيد الرئيس فيه، إمتعاض البعض من الناس في نظراتهم الغاضبة نحونا إثر منعنا لمرور السيارات في الشارع الفرعي الذي تطلّ عليه الدار قبيل وصول موكبه فقط… وكان البعض يتضجّر ويتمتم بعبارات غير مسموعة عادة، إذْ كنا نعتذر ونبرّر ذلك بأنها أوامر واجبة التنفيذ إحتراماً لرئيس الجمهورية.

وفي مفارقة لا أنساها… وبينما كنتُ أستطلع المنطقة المحيطة بدار رئيس الجمهورية في صباح أحد أُول الأيام التي كُلِّفتُ فيها بمهمة الحماية، وجدتُ لوحة صغيرة تحمل إسم “الدكتور خيري الجَمّاس”.. توقّفت عن المسير، إذْ أعادتني الذاكرة الى سنوات مضت، فهذا الطبيب كانت عيادته في “كركوك” وتربطه صداقة حميمة مع خالي “المحامي سيد ناظم سيد نوري الصالحي”… ضغطتُ على زرّ الجرس، وتأكدتُ من سكنة الدار أنه المقصود فعلاً، وعَرَّفتُ نفسي إليهم بوضوح، واعِداً إياهم بزيارة “الدكتور” ليلاً بعد عودته من العيادة وفي حدود الساعة التاسعة والنصف.

ويبدو أنه لم يصبر عند إخبار أهله له بحضور “ضابط حماية دار رئيس الجمهورية” في باب مسكنه بملابس عسكرية وهو يحمل مسدساً، حين أخبرني أحد الجنود بأن “الدكتور خيري” واقف بإنتظاري في باب الثكنة.. فخرجتُ إليه مسرعاً، ولكنه لم يتذكرني حتى تقربت إليه تماماً فصاح:-

* أوووووه صبحي!!! ما الذي جاء بك إلى هنا؟

– تخرّجت في الكلية العسكرية قبل حوالي شهر، وتنسّبت للحرس الجمهوري، وكُلّفتُ هذه الأيام بهذا الواجب… ولكن ما الذي جاء بك أنتَ من “كركوك” الى “بغداد” بينما أنت من أهل “الموصل”؟

* أنها ((ورطة)) إبتُــلِيتُ بها.

– لماذا ورطة لا سامح الله؟

* لا بل أن الله هو الذي قدَّر لي هذه الورطة، فقد كان طموحي كطبيب أن افتح عيادة في “بغداد”، ونُقِلتُ الى دائرة “صحة العاصمة”، وتقدمتُ لخطبة فتاة، وحاولتُ العثور على دار سكن، ففوجئتُ بالأسعار العالية للإيجارات التي لا تُطاق، وما أن عثرتُ على هذه الدار الفارغة حتى إستهواني إيجارها المنخفض جداً (15 ديناراً فقط)، رغم كونها لائقة وكبيرة وذات مساحة واسعة وحديقة لا بأس بها وغرف متسعة وعديدة… ولم أكتشف أنها

((ورطة)) إلاّ بعد أن إستقريت فيها من حيث متاخمتها لبيت رئيس الجمهورية.

– ولماذا تحسبها “ورطة” يا دكتور؟

* إجراءات حماية مزعجة.. جنود.. أسلحة.. تحديد حركة.. منع سيارتي من المرور في بعض الأوقات.. جنود في سطح الثكنة المتاخم لسطح البيت.. إزعاجات أخرى لا مجال لذكرها.. كل هذه ولا تحسبها “ورطة”؟؟؟!!!.

– ولكن، هل يطلّ سطح الثكنة على بيتكم؟ هل يزعجكم الجنود عند صعودهم اليه؟

* إطلالة سطحكم على بيتي ليست مباشرة… والحقّ يقال، فأن الجنود لم يزعجونا.. ولكن مجرد إحساسي بوجود جنود مدجّجين بالسلاح على سطحكم يزعجني إلى حد لا أستطيع معه النوم بعد الظهر.. وأنك تقدّر جيداً أننا أهل “الموصل” محافظون على تقاليدنا وعاداتنا.

– إسمح لي يا دكتور خيري… أنك لستَ على حق في تصوراتك، وأنك تهوّل هذا الموضوع دون داعٍ.

* لا والله يا صبحي،.. الآن في طريقي للعثور على مسكن أخر في أية منطقة من بغداد، ومهما يبلغ إيجارها، فقد ضقت ذرعاً.

ودّعتُ “الدكتور خيري الجَمّاس” في تلك الظهيرة، وزرتُه في بيته ليلاً مرّتين، وذلك قبل أن يودّعنا منتقلاً بإصرار إلى دار أخرى إستأجرها في حي “بغداد الجديدة” وفتح عيادته الجديدة هناك.