من يقرأ رواية (صندوق الرمل) يستطيع أن يدرك منذ السطر الأول أنه على أعتاب عملٍ لا يتكرر كثيراً خاصةً في الوقت الحالي، ويدرك حجم الجهد المبذول من صانعته الروائية الليبية عائشة إبراهيم لتقديم عملٍ فني وأدبي متكامل على مستوىً عال من تقنيات السرد التي تجمع بين جمال اللغة وأناقتها وبين سهولة الكلمات وبساطتها، حيث تتدفق كشلالٍ داخل صدر القارىء وتنساب بنعومة بين حجرات قلبه لتدخله في حالةٍ من النشوة الفكرية أمام رواية مكتملة العناصر تتمتع بقدرةٍ إستثنائية على تصوير المشاهد ونقل القارىء إلى قلب الحدث، وكأنه يعيش تفاصيل قصةٍ تحدث أمامه وتقدم له وجبةً دسمة من المشاعر والثقافة والتاريخ والفن، يتحرك فيها بين مجموعة من الصور والشخصيات المتنوعة والمتناقضة بمنتهى الخفة والرشاقة التي تكشف النقاب عن حقبةٍ هامة من التاريخ الليبي والعربي والإنساني تسبر فيه أغوار نفسية المستعمر وازدواجيته من حيث تطويع القيم والمبادئ الوطنية والدينية والأخلاقية والإنسانية لخدمة أطماعه ومآربه الدنيئة دون أدنى شعور بالخجل أو الذنب تجاه الضحايا الذين يريدون اعطائهم (فرصةً أفضل للحياة)، ذلك المستعمر الذي يذم من استعمره فيما يستخدم رؤيته للتاريخ لتبرير استعماره ونهبه لشعوبٍ أخرى والسماح لنفسه بإهانتها وإذلالها تحت مسمى الحضارة واستخدام نفس الذرائع بإستعادة (أمجاد الماضي)، والتي لم تختلف على مدار التاريخ مما يجعلنا ندرك جيداً أنه لا فرق بين استعمارٍ وآخر، ويضعنا أمام واقع قد لا يحبه البعض وهو أن المستعمر على مر العصور كان دوماً ولا زال ينظر إلينا ككيان واحد وشيء واحد على امتداد بلادنا، فيما نحن نختلف على مسميات لا معنى لها ولا تغير من حقيقة أننا جميعاً إخوة..
كما فتحت عائشة إبراهيم الباب أمام القارىء العربي وغير العربي ليتعرف على وجهٍ آخر لليبيا، ويتعرف على ما عانته من ويلات الإستعمار الإيطالي الذي لم يتم التطرق إلى ما اقترفه كثيراً مقارنةً بالحديث عن الإستعمار البريطاني والفرنسي لبلادنا وللعديد من الدول الإفريقية ودول العالم، كما فتحت أعين الكثيرين على الثقافة الإيطالية وتجولت في رحابها دون تكلفٍ أو استعراض وقدمت صورةً بانورامية عنها ضمن سلسلةٍ من الوجوه والأنماط لشخصياتٍ تعيش الكثير من التحولات والنقلات في حياتها وأحياناً يكون هذا التحول من النقيض إلى النقيض، فقدمت الواقعين الليبي والإيطالي دون توجيه القارىء ودون اللجوء إلى لغةٍ خطابية بأسلوب كاتبة متمرسة واثقة ومتمكنة من أدواتها وصدق رسالتها، فنجحت من خلال عددٍ بسيط من الشخصيات الليبية وأبرزها شخصية (حليمة) في إثبات أن قوة الحق والحقيقة لا تحتاج دوماً إلى مساحاتٍ كبيرة للظهور لأن حجتها ستظل حاضرةً حتى في غيابها وستكون أقوى من النسيان وعصيةً على الطمس..
ويحسب لهذا العمل حبكته وترابط فصوله وأحداثه وشخصياته ومنطقيتها، إلى جانب إيقاعه المشدود والمدروس البعيد عن الملل كلياً حيث لا وجود لإضافات بلا معنى إن كان ذلك من خلال الجمل أو الكلمات أو تكلف التشبيهات والإستعارات اللغوية وحتى المواقف، بل على العكس جاءت مثالية، شفافة، عذبة تعكس ذوق وسعة إطلاع الكاتبة وثقافتها وإحترامها لذائقة القارئ وعقله، حيث لم تلجأ من خلال الأحداث إلى (حشر) الحوارات والصور الجنسية تحت مسمى محاكاة الواقع واستغلال ذلك لجذب القراء، بل حافظت على لغة رصينة راقية أقرب إلى الجمل الموسيقية مع أن أحداث الرواية تسمح لها بالذهاب في هذا الإتجاه وفضلت أن تخوض المعركة الأصعب، معركة مخاطبة وعي القارىء واستفزاز إنسانيته والسباحة ضد التيار في توقيت بات فيه العزف على أوتار الغرائز الطريقة الأسهل نحو الشهرة، ليس هذا فحسب بل استخدمت الكثير من الكلمات والمفردات العربية التي لم نسمع بها منذ زمن لندرة استخدامها فأمتعت القارىء وذكرته بثراء هذه اللغة وتنوعها المذهل..
كما أن التوقيت الحالي المزدحم بالكثير من الأعمال السطحية والخاوية مناسب لتقديم أعمال قيمة تنعش الذاكرة وتحرك المخيلة وتطرح الأسئلة الهامة والحقيقية المتعلقة بالوطن والمصير والهوية من دون أن يقلل ذلك من فرادة المحتوى، خاصةً إن كان الكاتب يتمتع بالموهبة والمسؤولية والذوق الذي يمكنه من طرح هذا النوع من الأعمال التي تتمتع بهذا القدر من الرقي والبذخ في الكلمة والصورة والأحاسيس، والتي تفتح لنا باباً جديداً يقرب من خلال الفن بين دول المشرق والمغرب العربي بكل مكوناتها الثقافية، ورغم وصول هذا العمل إلى الترشيحات النهائية لجائزة الرواية العربية إلاّ أن هذا العمل هو جائزة بحد ذاتها وإضافة إلى المكتبة العربية تستحق القراءة عدة مرات للإستمتاع بها بين بدايةٍ مشوقة وأحداثٍ نابضة ونهايةٍ مؤثرة مكتوبة بحبر الدموع..