18 ديسمبر، 2024 8:14 م

ظلال الازمة الاوكرانية على الاجواء العراقية!

ظلال الازمة الاوكرانية على الاجواء العراقية!

من الطبيعي جدا ان تسبب ازمة خطيرة تصل الى درجة الحرب العسكرية الطاحنة والمدمرة، كتلك الحاصلة حاليا بين روسيا واوكرانيا، بأهتزازات وتصدعات سياسية وامنية واقتصادية كبرى على الصعيد العالمي، بحيث ان تأثيراتها واسقاطاتها وتدعياتها لاتقتصر فقط على رقعة جغرافية معينة مجاورة وقريبة لميدان الصراع والمواجهة العسكرية المسلحة.

تداخل وتشابك المصالح في عالم اليوم بين دول وكيانات ومجتمعات تفصل بين بعضها البعض بحار ومحيطات وقارات، جعل من اي ازمة تحدث في هذا البلد او ذاك تنعكس سريعا على البلدان الاخرى القريبة والبعيدة على السواء، مع تفاوت في مستويات التأثر والتأثير، ارتباطا بدرجة المصالح وطبيعتها وعناوينها وحجومها.

فالازمة التي تسببت خلال الايام الاولى لاندلاعها بدمار هائل بالبنى التحتية والمنشات والمراكز الحيوية الاوكرانية، بفعل القدرات والامكانيات العسكرية الروسية الهائلة من حيث العدد والعدة والتقنية، القت-اي الازمة-بظلال ثقيلة على المشهد الروسي العام، من خلال جملة اجراءات عقابية اقتصادية، وحملات مقاطعة راحت تتسع يوما بعد يوم، لتبدأ من الاقتصاد وتمتد الى الرياضة والثقافة والسياحة والتعليم.

يخطأ كثيرا من يعتقد ان روسيا لم ولن تتأثر، انطلاقا من كونها قوة عالمية عظمى تمتلك امكانيات وقدرات وموارد هائلة، الى جانب حضور فاعل ومؤثر في عموم الساحة الدولية، وفي ذات الوقت، يخطأ كثيرا من يعتقد ان كل ذلك التحشيد العالمي ضد روسيا، سيرغمها على الخضوع والاستسلام، او انه سوف يفضى الى هزيمتها وانهيارها، لان الحقائق والمعادلات القائمة بأبعادها الاقتصادية والامنية والسياسية والعسكرية، لم تعد تتوافق مع نظرية وجود منتصر يقابله مهزوم منكسر في كل المعارك والحروب العسكرية غير العسكرية، مهما كانت قوة وقدرة الذي يخوضها ويتورط فيها. ولعلها مقارنة سطحية وساذجة تلك التي يطرحها البعض، حين يشبه سيناريو الغزو الروسي لاوكرانيا بالغزو العراقي لدولة الكويت قبل اثنين وثلاثين عاما، ليصل الى نتيجة غريبة وغير واقعية، مفادها ان روسيا ستواجه نفس ما واجهه العراق، وان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوف ينتهي به الامر كما انتهى برئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، قبل تسعة عشر عاما.

مثل هذه المقاربات والمقارنات تبدو بعيدة عن الكثير من حقائق ومعطيات الواقع، لانها تأخذ بنظر الاعتبار بعضا من زوايا الصورة الكلية للمشهد وتهمل الجوانب الاخرى، فضلا عن كونها تتعامل مع ما يجري على السطح دون الغوص كثيرا في الاعماق، فالمعادلات الدولية في المرحلة الراهنة، وموقع روسيا فيها، وحجم الحضور والتأثير، يختلف تمام الاختلاف عما كانت عليه الامور قبل عقدين او ثلاثة عقود من الزمن.

لاشك ان موقع ومكانة وحجم وحضور روسيا، لايقارن بأي حال من الاحوال بموقع ومكانة وحجم وحضور العراق، سواء في السابق او الحاضر، فبينما روسيا تؤثر اكثر مما تتأثر، فأن العراق على العكس من ذلك، يتأثر اكثر مما يؤثر، ليس هذا فحسب، بل ان تأثره ربما يكون سريعا وملحوظا بدرجة اكبر من اغلب الاطراف المعنية.

اقتصاديا، وبحسب المؤشرات والمعطيات الاولية، فأن ارتدادات العمليات العسكرية الروسية في اوكرانيا، وصلت الى العراق بعد وقت قصير جدا. وفي هذا الشان تنقل غرفة تجارة محافظة السليمانية عن رجال اعمال عرااقيين اكراد تأكيدهم “توقف عملهم مع أوكرانيا تماما بسبب اعلان حالة الطوارئ هناك لمدة 30 يوماً، فضلاً عن توقف جميع المصانع والمنتجين في ذلك البلد، مما سيسبب ضرراً كبيراً لرجال الأعمال”.

وتشمل الأعمال التجارية بين العراق وأوكرانيا، استيراد المواد الغذائية المختلفة والفحم وقطع غيار السيارات ومساحيق التنظيف والمواد الكيمياوية، ووفق المصادر الرسمية يحتل العراق المرتبة السادسة من بين أكثر 15 بلدا له تعاملات تجارية مع اوكرانيا، ويبلغ حجم المبادلات التجارية بين الطرفين حوالي مليار دولار اميركي سنويا.

وطبيعي انه كلما طالت الازمة، كلما زاد مقدار الضرر الذي يمكن ان يلحق بالتجار ورجال الاعمال العراقيين، وبالتالي بالدولة العراقية والمواطن العراقي، الذي سيجد نفسه امام موجات ارتفاع جديدة لاسعار السلع والبضائع الاستهلاكية لاسيما الاساسية منها، ولعل فرض رسوم اضافية على مرور السفن التجارية من قبل البلدان التي تتحكم بالمضائق والممرات البحرية، كما هو الحال بالنسبة لقناة السويس في مصر، ومضيقي البوسفور والدردنيل في تركيا، سيرتب اعباء مالية اضافية، ستكون وطأتها اشد على البلدان ذات الاقتصاديات الاحادية، التي تفتقر الى القوة الانتاجية الصناعية، بحيث تعتمد بصورة كبيرة جدا على الاستيراد من الخارج. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فأن هيئة قناة السويس اعلنت إنها ستزيد من قيمة الرسوم المفروضة على السفن التي تعبر الممر المائي الرئيسي من نسبة 5٪ إلى 10٪ اعتبارا من مطلع شهر اذار-مارس الجاري.

ويشير الاكاديمي والخبير الاقتصادي عبد الرحمن الجبوري الى “ان أي حرب تحدث في العالم، تؤثر على بقية البلدان، وبما أن العراق يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد فإنه سيتأثر بكل تأكيد، وأن العراق لديه تعاملات واسعة وكبيرة مع أوكرانيا في مجالات عدة، منها الغذائية والحديد والصلب، علما انه-اي العراق-كان قد أجرى مباحثات مع اوكرانيا في اوقات سابقة لتنشيط التجارة معها، حيث افتتحت الحكومة الاوكرانية العام الماضي غرفة تجارة خاصة بها في إقليم كردستان شمال البلاد من اجل تفعيل العلاقات والروابط الاقتصادية بين بغداد وكييف.

الجانب الاخر في الموضوع، يتمثل بوجود جالية عراقية في اوكرانيا يتجاوز عدد افرادها الستة الاف شخص، الى جانب مئات او الاف الطلاب العراقيين الذين يدرسون في جامعات اوكرانية مختلفة، بشتى التخصصات الاكاديمية، وحتى الان فأن هناك اعدادا غير قليلة منهم غادروا اوكرانيا بعد اندلاع الحرب، اما ليعودوا الى بلادهم، او يتوجهوا بصورة مؤقتة الى بلدان اوربية اخرى قريبة مثل رومانيا وبولندا وهنغاريا من خلال ترتيبات بين الجهات الرسمية العراقية ونظيراتها في حكومات تلك البلدان.

ولاشك ان استمرار الازمة، سيدفع شيئا فشيئا كل او اغلب العراقيين هناك الى المغادرة، وهذا يعني فيما يعنيه خسائر وتبعات واثار اقتصادية كبيرة على الصعيد الفردي وكذلك على الصعيد الحكومي بالنسبة لكلا الطرفين.

وتذهب بعض الاوساط السياسية والمالية الى ان العراق سينتفع كثيرا من الحرب الروسية الاوكرانية، لتسببها بأرتفاع كبير في اسعار النفط، مما سيتيح له الحصول على عوائد مالية اكبر. وفي هذا الشأن يشير الخبير الاستراتيجي عدنان الكناني الى “ان العراق هو المستفيد الأول من الحرب الروسية وألاوكرانية، وربما ايران أيضا، على اعتبار ان الولايات المتحدة لا تريد ان تفتح جبهتان في ان واحد”. معتبرا “ان اندلاع الحرب الحالية ستساهم في تخفيف القرارات والضغوطات الاميركية على القرار العراقي، فضلا عن تأثيرها الكبير على الاقتصاد، اذ انها ستؤدي الى ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي زيادة واردات العراق منه”.

بيد أن خبراء اخرين يرون انه من الخطأ التعويل على هذه المسألة، لانه مع مرور الوقت ستكون الخسائر جراء الحرب اكبر من الارباح الناتجة عنها، ناهيك عن انه لايمكن التعويل على ارتفاع اسعار النفط، التي يطلق عليها “اسعار ازمة”، اي انها لاتعكس الواقع الحقيقي لمعادلات العرض والطلب، واكثر من ذلك، هناك من يذهب الى انه “قد لا تكون تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية مباشرة على العراق، إلا أن ارتباط النظام الاقتصادي العالمي مع بعضه البعض يجعل من الصعوبة بمكان أن تكون أي دولة بمنأى عما يحدث”.

ولاتتوقف الاسقاطات والانعكاسات السلبية للحرب بين موسكو وكييف على العراق عند هذا الحد، بل ان العلاقات المتشعبة بمختلف الجوانب والمجالات بين العراق وروسيا، لابد ان تتأثر هي الاخرى بما يجري على الارض، وبالتالي سترتب اعباء اضافية على مجمل الخارطة الاقتصادية العراقية.

ويعتقد المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي، الدكتور مظهر محمد صالح، “ان هناك كثيرا من المتعلقات الأخرى في هذا الشأن، تتمثل بوجود شركات نفط روسية عاملة في العراق، قد تُفرض عليها عقوبات دولية عليها لا تُعلم ماهية آلية تسديدها أو ما قد يترتب عليها، وهذا قد يقود إلى نظام الدفع بالكاش النقدي، فضلا عن مشكلة أخرى تتمثل في احتمال انسحاب هذه الشركات النفطية الروسية من العراق نتيجة الضغط الدولي”. فضلا عن ذلك، فأن مشاريع وخطط التعاون العسكري بين بغداد وموسكو ستصطدم بالعديد من العراقيل والمعوقات في ظل ارتباك المشهد العالمي والجو العام المعبأ ضد روسيا.

وما يزيد المشهد غموضا وضبابية في العراق، هو غياب موقف موحد حيال الازمة الروسية الاوكرانية، وظهور مواقف مختلفة ومتباينة الى حد كبير للقوى السياسية العراقية، وهذه المواقف انطلقتت في اطارها العام الشامل، من طبيعة توجهات كل كيان سياسي وارتباطاته وامتداداته الاقليمية والدولية، وهو ما يفسر رفع صور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بغداد ومدن اخرى من قبل البعض، في مقابل قيام البعض الاخر بتوجيه انتقادات حادة ولاذعة لمثل تلك الخطوات، مع قيام بعض الجماعات هنا وهناك بتنظيم تظاهرات احتجاجية مؤيدة وداعمة لاوكرانيا ومنددة بروسيا.

قد تكون الاستقطابات الحادة في الفضاء السياسي العراقي حيال الازمة بين روسيا واوكرانيا، عاملا اخر لاحداث المزيد من التأزم والتشضي والتفكك، خصوصا مع وجود الضغوطات الخارجية من الولايات المتحدة الاميركية واطرافا دولية واقليمية اخرى على بعض الاطراف القريبة منها لتبني مواقف محددة من الازمة .

ولعل التصريحات الاخيرة للسفير الروسي في بغداد “البروس كوتراشيف”، التي اشار فيها بشكل او باخر الى ان بلاده تقف على مسافة واحدة من جميع القوى والشخصيات السياسية العراقية، وان علاقاتها طيبة مع الجميع، اريد من ورائها اطلاق رسائل ايجابية تطمينية، ومحاولة الحد من تبلور مواقف مضادة لموسكو، لكن في ظل واقع سياسي صعب ومعقد وشائك، مثل الواقع العراقي، ربما لايكون يسيرا ومتاحا الوصول الى نقاط التقاء تجمع اكبر عدد من الفرقاء حول اي قضية من القضايا.

وبما ان حقائق ووقائع الاقتصاد متداخلة ومتشابكة مع حقائق ووقائع السياسة، وبما ان الحرب الروسية الاوكرانية خلطت كل الاوراق، فمن الطبيعي جدا ان تتصاعد التداعيات وتتفاقم الانعكاسات على شتى مظاهر الاقتصاد والسياسة في العراق، بصورة مباشرة او غير مباشرة، بقدر استمرار الحرب، وتصاعد وتائرها، واتساع ميادينها.