23 ديسمبر، 2024 10:45 ص

 

تشير ظاهرة مقتدى الصدر إلى العقد الفكرية المستحكمة في الوعي العراقي عموماً، والوعي الشيعي خصوصاً. فهي نتاج تلاقح الجهل الذي يضرب بأطنابه في عمق الوعي العراقي، وعقيدة التقليد التي تعطل العقل والإرادة لحساب المقدس الموهوم أو المزيف.

إن شخصاً مثل مقتدى الصدر لا يملك من المؤهلات الشخصية ما يبرر انقياد جموع غفيرة له، وتسليمهم له بطريقة لا يمكن للعقل أن يستوعبها. لكن المصادفة، التي جعلته ابناً لمحمد الصدر، أسعفته كثيراً. فقد قاد حركة اعتراض مشهودة على سياسات نظام الطاغية صدام، في زمن كانت فيه المؤسسة الدينية ترعى خرافها في حافات التاريخ البعيدة.

المقارنة الطبيعية بين حراك السيد محمد الصدر، وبين الجبن غير الطبيعي الذي ميز موقف المؤسسة الدينية من نظام الطاغية صدام تولد عنها أسطرة غير مسبوقة لشخصية محمد الصدر. وبدلاً من أن تدين الأمة الموقف المتخاذل غير المتسق مع عنوان المرجعية والقيادة الدينية الذي اختطفته المؤسسة الدينية، وتنظر لموقف السيد محمد الصدر على أنه موقف طبيعي تقتضيه وظيفة المرجعية، تم سكب كثير من الألوان على موقف السيد محمد الصدر، والنظر إليه على أنه بطولة غير عادية، وهو ما يمثل تبريراً غير واعٍ لموقف المؤسسة الدينية، أي باعتباره موقفاً عادياً، ولو نسبياً، أو بالنظر إليه على أنه، فقط، موقف لا يرقى لموقف البطولة الأسطورية.

بعد سقوط نظام الطاغية صدام، ومنذ الأيام الأولى للاحتلال، تم توظيف الأسطورة لمصلحة مقتدى من خلال توسيع عنوانها إلى أسطورة “آل الصدر”، لتشمل مقتدى. وتم تجميع جهود محمد الصدر ومحمد باقر الصدر وبدرجة أقل موسى الصدر لتلفيق برهان على صحة أسطورة “آل الصدر”.

ومرة أخرى تتدخل المقارنة بين موقف المؤسسة الدينية المتواطئ كلياً مع الاحتلال وموقف مقتدى الصدر المناهض والمقاوم له، وتجري من جديد أسطرة موقف مقتدى الطبيعي نسبياً، باعتبار أنه قدم نفسه قائداً دينياً لشريحة كبيرة من العراقيين، ويتم التغاضي عن موقف المؤسسة الدينية المتخاذل، بل يتم تبريره وأسطرته لاحقاً باعتباره أحد الشذرات الفريدة الساقطة من جيب الحكمة المثقوب.

لاحقاً تمكنت القوى الحزبية التابعة، اسمياً، للمؤسسة ومعها الراعي الإيراني من تدجين مقتدى الصدر وزجه في دائرة اللعبة السياسية (التي كانت بالنسبة له حراماً)، ومع هذا الموقف الجديد كان لابد من هامش اختلاف يميز مقتدى ليستبقي الاتباع تحت سطوته، ويبعدهم من خطر الذوبان في التيار العام الذي تسيطر عليه المؤسسة الدينية، وهنا تم ابتكار مصطلح الاصلاح وقائد الاصلاح، الذي لم يترك محاولة اصلاحية يقدم عليها الشعب إلا نط في وسطها وصاح وعربد ثم انسحب منها كاشفاً ظهرها للنظام الفاسد. وكانت تجري دائماً بخفاء نسبي عملية ترقيع للفتوق الاصلاحية المستعصية على الفهم عبر إلباس أسطورة “آل الصدر” ثوباً دينياً لم يسبق أن تجرأ أحد من المتشيعة على القول بمثله، فاستحال آل الصدر، عبر عمل دؤوب تولت كبره الماكنة الإعلامية التيارية، إلى جزء من الدين وطاعتهم طاعة لله، حتى تخلقت واحدة من أبشع الديكتاتوريات تقدم بها الأهواء والرغبات الشخصية بصورة فرمانات دينية لا تقبل نقاشاً. وبلغ من شدة استفحالها أن صدق مقتدى الصدر نفسه أن آل الصدر، وهو منهم مصطفين من الله، أو ما هو بحكم المصطفين، لإصلاح العراق، وصار يرى أن على الجميع الخضوع لرغباته، لا أتباعه فقط.

ولشدة انخطاف وعيه وتعلقه في سقف الوهم صار يرى أي تمرد، أو عصيان، أو عدم طاعة لرغباته على أنه موقف معادٍ، ومؤامرة تستوجب رداً عنيفاً، يعيد التوازن للنفس المضطربة، والوهم المجروح. نحن إذن أمام حالة مرضية لا ندري إن كانت ستجد طريقهاً للتعافي، الذي نتمنى أن يكون سريعاً قبل أن يخرب العراق كله، ويقلقنا أن أطرافاً من الخارج لا تهمها غير مصالحها تغذي وتستغل هذه الحالة المرضية.