ترتفع يوماً بعد يوم نسبة ومعدلات العزاب بين أفراد المجتمع العراقي وكذلك المجتمع العربي بشكل عام، فيتخطى الشباب والشابات مراحل العمر دون أن يمروا بتجربة القفص الذهبي، وقد يصل بعض الأفراد إلى خريف العمر وهو لايزال يسعى لأن يجد شريك العمر .. وقد يصل إلى مرحلة اليأس من العثور على هذا الشريك وبالتالي يقنط ويسلم بالواقع المرير لحياة العزوبية الأبدية، والتي تمثل عملية إنتحار الذات والقفز على سنن الحياة الطبيعية والرضا بعدم الحياة، فمن لم يذق طعم الزواج وبناء الأسرة وتربية الأطفال لا يمكن أن يعتبر نفسه حياً وإن كان يصول ويجول في هذه الحياة الدنيا، إلا أنها تمثل حياة بلا حياة ..!
إن الإبتعاد عن تلك السنة الإلهية التي طالما دعت وحثت عليها الأديان والشرائع السماوية (وَمِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجَاًً ) (الروم:21) تمتزج بالعديد من الأسباب والمسببات والعوامل الظاهرية والباطنية، التي لابد أن يتوجه لها الدارسون والباحثون للوصول إلى العلل الحقيقية وراء هذه الظاهرة التي تمزق كيان المجتمع، إذ تخرج من عباءة العزوبية الكثير من المفاسد والآفات الإجتماعية التي تنخر بقيم المجتمع وتمزق حصانته الأخلاقية، فالزواج هو الحصانة الربانية لعدم إنحراف الفرد (هُنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ) (البقرة:187) والسعي وراء الطرق المنحرفة لإرضاء الغريزة المتأصلة في الطبيعة البشرية (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ العَادُون) (المؤمنون:7)، وحتى لو تعفف الإنسان عن القنوات المحرمة لإرضاء تلك الغريزة (وَليَسْتَعْفِف الَذِينَ لا يَجدُونَ نِكَاحَاً حَتى يُغنيَهِم اللهُ مِن فَضلِه) (النور:33) إلا أنها تبقى عائقاً أمام تكامل الإنسان وبناء الأسرة التي هي عماد المجتمع وركنه الركين، فمن الأسرة دائماً تنطلق المشاريع التربوية المتعلقة بتأصيل القيم الأخلاقية الفاضلة.
وقد يجد القارئ صعوبة في ربط العزوبية، تلك الظاهرة الإجتماعية، بالفساد الإداري والمالي المتفشي في الدوائر الحكومية، فلو حاولنا الربط بين العزوبية كمسبب وبين الفساد بشكل عام لم يكن ذلك بالأمر المعقد كما تم توضيحه في الآيات القرآنية وحتى الدراسات العلمية من دور العزوبية في تفشي بعض مظاهر الفساد والإنحراف الأخلاقي داخل كيان المجتمعات سواء كانت تلك المجتمعات متحررة على غرار المجتمعات الغربية أو متحفظة كما هو الحال في المجتمع الشرقي .. إلا أن ربط العزوبية بالفساد يختلف كثيراً ، فهنا الفساد الذي نقصد به الفساد الإداري والمالي في مجال العمل كمسبب والعزوبية كنتيجة.
فالفساد الذي يتمثل من خلال العديد من الجرائم والسلوكيات غير النزيهة يظهر عند بعض العاملين في الخدمة العامة مهما تراوحت مستوياتهم الإدارية ودرجاتهم الوظيفية، ومن أبرز مصاديق الفساد هي جرائم الرشوة وإستغلال الوظيفة العامة والتزوير والإختلاس وهدر المال العام وغيرها من مظاهر الفساد التي تؤدي بصورة أو بأخرى إلى إزدياد مظاهر العزوبية في المجتمع بلحاظ عدد من الحيثيات الآتية:
أولاً: إن الفساد يؤدي إلى وجود خلل في طرق وأساليب التعيين ونيل الوظائف الحكومية، حيث يستأثر البعض من ذوي النفوذ والسلطة في المؤسسات الحكومية بالمناصب والوظائف الحكومية لهم ولأقاربهم ولأحزابهم ومن له صلة بهم من قريب أو من بعيد، وبالتالي سوف لا يتم توزيع الوظائف على أساس عادل وشفاف، ويحرم بذلك العديد من ذوي الشهادات الجامعية والتخصصات العلمية من الحصول على تلك الوظائف وبالتالي تردي المستوى المعيشي لهم، إذ إن الوظيفة تمثل الهدف الأول لكثير من الشباب بإعتباره مقدمة لتمكنهم من الزواج وبناء الأسرة وإعالتها، فالشاب اليوم يفكر بنيل الوظيفة والتعيين قبل أن يقدم على مشروع الزواج . وخلاصة القول إن إرتفاع معدلات البطالة بين أوساط الشباب يزيد من نسبة العزوبية وظاهرة العزوف عن الزواج.
ثانياً: من آثار الفساد كثرة المشاريع غير المنجزة التي يكون الهدف الأساس من ورائها شفط خزينة الدولة وملء جيوب المسؤولين الذين يتحكمون بمشاريع ومقاولات الدولة مع الشركات، لذلك تقلصت المشاريع العمرانية الحقيقية التي تحل أزمة السكن، وبدلاً من ذلك كثرت المشاريع التي لا تسمن ولا تغني من جوع، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تمتص خزينة الدولة ومواردها من تحقيق الحاجات الرئيسة للفرد العراقي.وبالتالي سينعكس ذلك على تلك المشاريع التي تخص المجتمع والعوائل العراقية التي تبحث عن سكن، فهنالك الكثير من الشباب وقفت مشكلة توفير السكن الملائم حائلاً أمامهم من الزواج.
ثالثاً: إن الفساد يؤدي إلى إزدياد الأسعار وغلاء المعيشة، ومن المعلوم أن الشاب الذي يريد أن يقدم على الزواج عليه أن يلبي الكثير من المتطلبات والحاجيات التي تثقل كاهله، ومن أمثلة تلك الحاجيات هي غرفة النوم(الأخشاب) وكل الإحتياجات التي لا يسع المقام لذكرها، فإرتفاع أسعار متطلبات الزواج إضافة إلى غلاء المهور نتيجة لإرتفاع الأسعار بشكل عام يشكل عبئاً جديداً على من يرغب في الزواج.
على الرغم من أن الأسباب التي ذكرت آنفاً حول دور الفساد في إشاعة ظاهرة العزوبية بين الشباب لم تكن أسباباً مباشرة، إلا أنها بالتالي تقف عاملاً من العوامل الرئيسة إضافة إلى العوامل الأخرى الإجتماعية والنفسية التي يعاني منها الفرد العراقي، فالزواج حاجة إجتماعية ملحة وتصل خطورة تفشي تلك الظاهرة إلى مستوى خطورة الآثار السلبية المرتبة عليها كتفكك أواصر المجتمع وإنتشار مظاهر الفساد والإنحلال الخلقي والكثير من الأمراض الإجتماعية، وبالتالي ينبغي للمسؤولين الإلتفات إلى تلك الظاهرة، وإيجاد الحلول المناسبة لها، ومن أمثلة تلك الحلول هو تشجيع الشباب على الزواج من خلال مكافحة ظاهرة البطالة، والعدالة في توزيع الوظائف وخلق فرص العمل، وكذلك يمكن إعطاء الشباب الراغبين في الزواج مبالغ مالية لتوفير إحتياجات ومتطلبات الزواج، وأخيراً وهو الأهم، العمل الجاد والحثيث لحل أزمة السكن التي يعاني منها الكثير من أفراد المجتمع، من خلال توزيع الأراضي السكنية وإقامة المشاريع كالمجمعات السكنية، ودعم أسعار مواد البناء.
* ماجستير علم نفس تربوي