ان اخطر ظاهرة سلوكية يمكن ان تهدد الانسان هي الاحساس بالعبث واللاجدوى في الحياة. وبادئ ذي بدء، يجب ان نفرق بين اللاجدوى والعبث. فالعبث هو ادراك مبكر لفوضوية الوجود وتمزق الذات منذ البداية، لكن اللاجدوى هي ناتج سلبي من نتائج الجدوى والأمل الخائبين.
فعندما ينشأ الانسان يافعاً وهو على حالة من العبث واللامبالاة بكل موقف وجودي جاد، فهو الانسان العبثي، لكن الانسان الذي ينشأ صارماً متشدداً، وصاحب قضية ورؤية في القضية، ثم تواجهه ظروف احباط مرة، فيميل الى اليأس من تحقيق ما صبا اليه وراهن فيه على كل مقدراته، فهو الانسان الذي ادركته حرفه اللاجدوى.
معنى هذا، ان العبث يمكن في اغلب حالاته ان يكون فطرة ووراثة، لكن اللاجدوى لايمكن ان تكون الا مكتسبة. معنى هذا مرة اخرى، ان اللاجدوى هي موقف من المواقف له اسبابه وحالته التي يعيش بها وماله الذي ينتهي اليه.
وقد لا يقود العبث الى الانتحار، لان صاحبه لا يملك اصلاً ما يموت من اجله فيما يقود الاحساس باللاجدوى في كثير من حالاته الى الانتحار حين يصبح قهر الموقف اكبر من قدرة الانسان على المواجهة.
ان اللاجدوى، صورة من صور اليأس، لكن العبث قد لا يكون يأساً لاعتقاد صاحبه بأنه هو هكذا، وبأنه يجب ان يقنع بانه هكذا. وفي مجالات العلوم والاداب والفنون…. يفترق مفهوم اللاجدوى. فالعالم محكوم بهاجس محاربة اللاجدوى، لانه انسان تطبيقي وتنفيذي رهين بالقياس والنتائج التي تحمل واحداً من اثنين – نعم او لا.
والشاعر في اغلب حالاته محكوم بان يحمل شيئاً من اللاجدوى لكي يعيش فن الشعر بعيداً من واقعيته. ان اكبر قصيدة هي قصيدة اللاجدوى، معنى هذا، ان العلم هو الجدوى، وان الشعر هو اللاجدوى.
اننا هنا لا نعني الشعر التقريري الواضح في اهدافه ومناسبته، فلهذا النوع من الشعر واقعية وأمل وهدف، تقع في مضمون الجدوى، لكن شعر الرؤية والحدس والتشوف الغيبي واستكناه الميتافيزيقيا، هي شعر اللاجدوى، لانه شعر الصورة الفنية.
ويقع الفن في اللاجدوى مثل وقوع الشعر فيه، احاول ان اكون اكثر وضوحاً فأقول: ان شاعر اللاجدوى هو شاعر الامل في غائب لا يتحقق حضوره، وان فنان اللاجدوى هو فنان الأمل في تطلع لا يراه قريب التحقيق. ان ادباء الامل اكبر من ادباء الواقع، لان الامل أصيلاً اكبر من الواقع.
قلنا سابقاً، ان اللاجدوى هي صورة من صور اليأس، فكيف يكون يكون شاعر اللاجدوى وفنان اللاجدوى شاعر امل وفنان أمل على التوالي؟
انني ارى في اقسى حالات اليأس املاً، لأن اليأس من شيء في الواقع يحيل الى امل في شيء آخر، لذلك تجد اليائسين من الواقع هم الحاملون بمرحلة ما بعد الواقع، وفي احلامهم يحققون ما عجزوا عن تحقيقه في الواقع.
ان هذا لا يحدث للعالم لانه عنصر مواجهة مع الواقع، ينجح بنجاح مهمته ويموت بموتها، وحينما تفشل التجربة عند عالم فأن الذي يفشل هو التجربة وليس المجرب. معنى هذا ان فن العالم وفلسفته هما اللذان يدفعان الى الاستمرار، يقودنا هذا الى التفريق بين اللاجدوى من الواقع واللاجدوى من الامل.
ان اللاجدوى من الواقع هي سلاح الاديب، شاعراً وروائياً، في الذهاب الى جدوى الامل، فيما تقود جدوى الواقع العالم الى جدوى الامل. لهذا فالعالم يعيش واقعه والاديب يعيش في احلامه، واضرب لذلك مثلاً: ان انيشتاين في نظريته النسبية كان هارباً من لا جدوى واقع الفيزياء الى جدوى امل الفيزياء حتى جاءت نظريته نوعاً من انواع الاحساس بالجدوى ناتجة من الاحساس بلا جدوى واقع الفيزياء. وان المتنبي حين قال- اريد ان ابلغ من الزمن ما لم يبلغه الزمن نفسه- كان هارباً من لا جدوى الواقع الى جدوى الامل. كلاهما صاحب نظرية. توقفت الاولى عند الاول لانها احتكمت الى النتائج، ولم تتوقف الثانية لأن مفهومها امتدادي على محوري الافق والشاقول الحافرين في ضمير العقد عند المتنبي.
هل تعد اللاجدوى خيبة حقيقية؟
اننا امام حالتين، فعندما تصبح يأساً فهي خيبة، وعندما تصبح وعداً في شيء آخر فهي ليست كذلك.
مثال على ذلك- ان الانسان لم يستطيع ان يدرك الله بالحواس والقياس، لكن بعض هذا الانسان عد البحث عن ذلك اعجازاً الهياً، وحول اللاجدوى الى ايمان بالمعجزة وآمن بالله على الرغم من صعوبة او اواستحالة ادراكه. فيما عد بعض آخر منه هذا البحث لا جدوى، فاسقط الايمان بغائب عن الحس من حسابه وصار ملحداً.
لقد ظل الموت اكبر النهايات التي تسد الطريق على جدوى الحياة وتفتحه امام الاحساس باللاجدوى. وامامنا من المفارقات الاجتماعية ما يجعل اللجوء الى اللاجدوى امراً معقولاً في شيء ما من الموضوعية. فاليأس من انتصار الفضيلة عند بعض الناس، وتفوق الخائبين على اصحاب المصداقية والموقف الحاسم، أمران اجتماعيان جعلا للاجدوى امراً قائماً. ولقد صار غياب العدالة المؤقت في ظلال الاقطاع والجوع داعياً الى احساس المظلومين بلاجدوى العيش. وكلما تأزم الانسان من احساسه باللاجدوى، تذكر الروح وقيمها واخلاق الدين وتعليماته نوعاً من انواع العلاج.
ان الآية الكريمة في القرآن- وان ليس للانسان الا ما سعى… – تحارب الاحساس باللاجدوى، لكن اللاجدوى سرعان ما تظهر كلما ظهر في الارض تطبيق بشري يعاكس هذه الآية.
ومن دواعي ظهور اللاجدوى، ان مقولة- لله حكمة لا تدركها العقول- كثيراً ما ينساها الانسان المتعجل الملحاح ويستبطئ نتائجها.
لقد شاع عند كثير من الجاهلين بقدرة الله على ابداء المدد للانسان، ان قوله – الله كريم- وقوله- لا حول ولا قوة الا بالله- اثنتان من اقوال الامل البعيد. وهذا ما يجعل هؤلاء بعيدين من ادراك علاقة الله تعالى بالبشر المنكودين في احوالهم، يجب ان نكون اكثر حذراً في التعامل مع اللاجدوى، وطوبى لمن استطاع ان يحول كل احساس باللاجدوى الى طريقة للبحث عن جدوى جديدة.
هناك علاقة واضحة بين الاحساس باللاجدوى والذكاء الانساني. ان الاغنياء هم آخر من يحس باللاجدوى، لذلك فهم في نعيم وترف.
ان الانسان الذكي يكتشف لعبة الحياة وينفر من مفارقاتها فيحس باللاجدوى. ان الاحساس باللاجدوى عذاب انساني شديد. وقد لا يتعذب في الحياة الا الذكي العارف بصبيانيتها وترهلها وبلادتها ونزقها. والاذكياء الخبثاء هم الناس العارفون بكيفية اغماض العين الى النصف عن الحقيقة التي اسمها الكذبة. اما الاذكياء الذين لا خبث في ذكائهم فهم ضحايا القطيع البشري. مرة اخرى، طوبى للاذكياء في التغابي عن صعوبة ما لا يدرك من الحقيقة المرة.
ان المثقف الحقيقي مدعو الى ان ينتبه على خطورة احساسه بل ب لاجدوى ثقافته، لانه يجب ان يستمر لكي تستمر الحياة. واول المطالب التي نواجه بها المثقف هو سؤالنا أياه: ماذا تريد من ثقافتك؟
ان اول درجات السقوط الثقافي عند المثقف هو ان يريد شيئاً. فالثقافة مثل الحب، تعطي ولا تأخذ، والمثقف مثل المناضل، اول من يعطي وآخر من يأخذ، اما حينما يكون للثقافة هدف شخصي او طموح ذاتي يقع في لذة ويستقرئ في الوجوه الرضا، فالثقافة ميتة لا محالة. يكفي المثقف شرفاً ونحراً ان له اتباعاً لا يعرفهم وجنوداً لا يراهم وانصاراً لا يلتقي بهم.
ويكفي المثقف المبدع فخراً ان يمشون في جنازته هم اضعاف من لم يكتبوا له واليه رسالة اعجاب في يوم ما.
[email protected]