بين حديث اليوم عن طُرق الشوك التي تمتدُ على إِثرِ أخواتها قديماً وإن عُرفت بطريق الحرير ، أراني مُلزماً بالعودةِ تارةً أخرى الى التاريخ للبحثِ في الحقب الغابرة ، ميراثُها المثقلُ بصورٍ لا تَمل التكرار ، من تزاحم العلمِ والقتلِ والسُلطةِ والأنانيةِ والعطاءِ والغدرِ والكرمِ والانتهازية والتضحية وقُل ما شئت من المتضاداتِ التي مُسحت بها وجوه عصورٍ بأكملها لتنتج وعلى الدوام الانفصام ذاته ، ولتستمر حروفُ الشاعر مؤمنةً بأنها الأولى وكلماتُ العاشق بإنها الأكثرُ رهافةً وتطلعاتُ السياسي الأكثرُ عبقرية وخيبات المظلومين بأنها الأدعى للأسى عند كُل مفترقٍ وتعرُج من تعرُجات تلك الطُرق ! لم يدرُ في خلد المهتدي بالله محمد بن الواثق العباسي أن عام بيعته التي رفضها العامة والخاصة لولا خلعُ المعتزِ لنفسه بأنها ذاتُ السنة التي ستشهدُ ما عُرف بثورة الزنج فلدار ” الخلافة ” صداعُها المزمنُ وصراعها التقليدي مع الهاشميين من جهة وتنازع ” الأصهار ” من التُرك والديلم حول النفوذ بين أروقةِ دار الإمارة في سامراء ، وتبوء المناصب في الجيش ،، الحاكمُ الفعلي حينها ، رُغم ترنُح هيبة الدولة ، أمام استيلاء بعض الأُمراء على أقاليم ، تغاضى عنه ” الخليفةُ ” على مضض وبين إقدام البعضِ على الإنقضاض فجأة ، تارةً لرفضهم البيعة ،، وأُخرى لإغتنام فرصة إظهار القوة ،، لنيل مغانم تُجنى إما بالسلب الذي كان ديدن أغلب عساكر الأرض ،،، أو ما سيسبغُ من عطايا مقابل الرجوع عن ” الثورة ” …كما لم يتوقع علي بن محمد بن أحمد المعروف بصاحب الزنج أن ” دعوته ” ستمتدُ من البصرة حتى البحرين جنوباً ،،
والى الاحواز شرقاً والى واسط بل تخوم بغداد شمالاً وأن الموالي و ” العبيد ” سيقاتلون الى جنبه اربعة عشر عاماً قُتل خلالها بحسب رواية الذهبي ألف ألف وخمسمائة أنسان ، أي مليون ونصف المليون !! وأن اضطرابات البصرة والقحطِ ستدفعُ بالناس أحياناً الى التسلُلِ ليلاً لصيد الكلاب والجرذان وأكلها ، وأحياناً الى اكل الرجُل صاحبهُ ، إن قدِر عليه [ بحسب رواية المسعودي ] وكان للتحركِ أو الثورةِ أو الشغبِ أو الردةِ أو الخروجِ ” بحسب مسميات الرواة ” أدواتها ، قطعة من ” الحرير ” كتبت عليها آية كما فعل صاحبُ الزنج لتوضع على جبين من مناهم بالحرية بعد الرق إضافة الى إدعاء النسب العلوي طبعاً وأن كان النهجُ ” خارجياً ” نسبةً إلى الخوارج ،، وكان قد صادف ذلك التحركُ تحركٌ آخر بين الإسكندرية وبرقة ،،، حيث خرج أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا مدعياً الخلافة ،،، سائراً الى صعيد مصر بدعوته تلك ،،، ليُقضى على من معه على يدِ العساكر ويحملُ رأسه الى أحمد بن طولون في القاهرة مُساور الخارجي يدحرُ جيش الخليفة ،،، فيستولي هو على الموصل ،،، بينما يستولي مُفلِح على طبرستان ويحارب الحسن بن زيد ،، فيفرُ الحسنُ عنها ليلحق بالديلم ،،، ليحرق مُفلِح دور الحسن ويذهب في طلبه لدى الديلم ،، إما في بغداد ،، فقد وثب عامةُ أهلها وجُندها بمحمد بن أوس البلخي الذي كان قد حلّ بها و ” صعاليك ” جاء بهم من خُراسان ،، ليعمّ الشغبُ في بغداد حتى يرحلها عنها بعد مقتلةٍ ونهبٍ وسلب كان آخرها عند باب الشماسيةِ شرق بغداديستمر الموتُ والقتلُ والسلبُ وبيعُ النساءِ وغارات الجُندِ عاماً بعد عام في ظل ماعُرفَ ” بثورة الزنج ” ،، حتى سار الموفقُ بالله وأبنه المعتضد سنة 270 هـ ليباد جيشُ صاحب الزنج ،، ويُحملَ رأسهُ الى بغداد ،،، لتنتهي أو لتطوى مجرد صفحة ، من صفحات سجل الأضطرابات التي لم تبدأ بخروج الزنج أو القرامطة أو أستيلاء الفلانيين أو العلانيين على الأقليم أو المدينة الفلانية ،،، ولن تنتهي يوماً بسقوطِ بغداد على يد المغول ،،، بل هو سجلٌ طويلٌ ممتدٌ بعمقِ جذورِ أسبابه ودواعيه ،،، كذلك لم ينقض عامُ 255 هـ ،، 869 م …
قبل أن يفقد العلمُ أذ ذاك ووسط تلك المعامعِ والأضطرابات ،،، عمرو بن بحر الجاحظ ،، و أبو عمرو بن حمدويه الهروي اللغوي الشاعر ،، ومحمد بن كرّام السجستاني صاحب المقالة في التشبيه ،، و الزبير بن بكار القاضي ،، وعبد الله الدارمي صاحب المُسند ،، ومحمد سحنون بن سعيد القيرواني الفقيه المالكي ،،،، الى جانب أسماء ونعوت طويت واختفت كما تطوى وتختفي اليوم أسماء البشرِ على ذات الأرض ،،، في ذات المُدن ،،، وعلى الطُرقِ ذاتها ،،، دون تأملٍ في ماضٍ مشابه وعوامل مماثلة ،،، كما يستمر الإعِراضُ عن دراسة كتب التاريخ ،،، التي اطلق مؤلف أحداها عليها ،،، العِبر ،،، في أخبارِ من غَبر .يتبع