18 ديسمبر، 2024 5:50 م

على ضفاف دجلة رسمت بقايا أمل ونثرت أحلامي في فضائه تلوح أمواجه من أفقه البعيدتتكسر تحت أعمدة النخيل, قبل أن يلامس ما تبقى من رذاذها أطراف ساقي ,هكذا يغدو هذا وقع هذا المشهد المتكرر جميلاً لدي . كنت ألقي على هذا الشاطئ وهذا النخيل نظرات الوداع كنت أهم بحمل عبء ذكرياتي في كل مرة أودعه فيها قبل أن يتحول هذا الحي إلى منفى تحيطه الأسوار الكونكريتية التي كأنها حلت محل ذلك النخيل فبات الشاطىء الذي كنت أعاود فيه أحلامي وآمالي يجف رويداً رويداً قبل أن يمسي بركة نائية تشهد على وقع النهاية . وأتسائل في سري أما زال ذلك الحي يوقد في نار الحنين ؟’ أم أنه مجرد ذكرى ستمضي إلى حال سبيلها كسحابة الصيف؟ , فلا مجال للعودة وحدها الآمال و الأحلام تجيد التعبير فهي آخر ما لدي يذكرني بحيي وكل ما يحيط به .اليوم أعيش في قعر هذه الأسوار وحوله أرى أطفال مشردون يتقنون اصطياد المارة كي يعرضوا عليهم بضائعهم ونساء يتسولن دون ملل وحياء.هكذا هو الحال الجديد فيه لا انتظار أمل جديد ولا تفاؤل بمستقبل قريب , كانت الأحياء المحيطة بالنسبة لي زنازين يتخللها ذلك الصمت البعيد كأنها معابد أسطورية بنيت خصيصاً لهذا الغرض !, ولكني بين مسافة وأخرى كنت ألمح في الجدران صور ونشرات معظمها شبه ممزقة مكتوبة فيها شتى الخطب والوعود “الانتخابية ” أبطالها سياسيون يرتدون بزات أنيقة على وجوههم إمارات الابتسامة ومعالم والأريحية كانت بالعشرات ربما بالمئات وتحتها كانوا هؤلاء الأطفال المساكين الذين رأيتهم قبل قليل يفترشون الأرصفة وفوق رؤوسهم يقف سماسرة كانوا من حركات أصابعهم التي توحي بالتوبيخ والوعيد ربما لأنهم تأخروا عن دفع الحساب أو لم يؤدوا عملهم بالشكل المطلوب ! بين الحين والآخر كان أزيز الرصاص ينطلق من كل اتجاه من دون أن أعرف مصدره .
كانت هذه المشاهد ثقيلة على قلبي حيث لا شيء جميل في هذا المنفى .. لا شيء البتة . الأزقة موصدة الأبواب استسلمت لشبح اليأس أمر عليها دون أن أسئل عن قاطنيها فما فائدة كل ذلك !.
حتى المقهى فيه كان شبه مقفل لا يظهر من نافذته غير عامل نحيف ينظف الأرضية بوضعيته التي توحي باللامبالاة !. كانت أغنية قديمة ليوسف عمر تتردد بصوت خفيض على مسامعي كأنها أشبه بنشيج عابر! .
المسافة التي كانت تفصل بيني وبين هذا العامل لا تتجاوز خمسة أمتار ورغم ذلك لم يكترث لرؤيتي ربما هو معتاد على رؤية الأرضية على هذا النحو على الدوام ! . أو ربما هكذا هو الحال في هذا المنفى لا أحد يكترث لأحد حتى وان طلب إليه المساعدة وهذا لن يغير في الواقع شيئاً في نظرهم .ثم تساءلت في سري أهو كابوس طويل أعاني منه كما عانى منه “يوسف ك ” بطل رواية القضية؟, أم هو انتظار ذلك المدعو “جودو ” الذي كلما فكرنا فيه حل ضيفاً عابراً على عقولنا !.
أم هو واقع لا يقبل الشك علي أن أ سلم له رغماً عني ؟
جلست القرفصاء في إحدى الزوايا أحدق فيما حولي والمرارة تعتريني بعد هنيهة لمحت من مسافة صبية يلعبون وعلى عيونهم شيء من الغبطة كانوا يعيشون اللحظة الحاضرة ويستوعبوا كل ما فيها كانوا في نظري طيوراً جميلة في هذا المنفى تتعالى صيحاتهم وقهقهاتهم بين التشجيع والتوبيخ فلا شيء يلهيهم غير أن يعيشوا ترياق حاضرهم لأطول أمد ممكن .
حدقت لهذا المشهد طويلاً دون أن أتفوه بكلمة كان هذا المشهد يوقظ في ذكريات الطفولة بأجل صورها ومعانيها رغم عدم إلمامي بجميع تفاصيلها , و فجأة … لمحت كوخاً على بعد أمتار قليلة من مكان جلوسي كانت إشاعات تقول بأن قارئة كف عجوز تقطنه توجهت إليها فيما بعد ليس بدافع معرفة التنبؤ بما يخبئه لي المستقبل أو طلب المغفرة أو حتى الشفقة فهذا لم يعد مهماً بالنسبة لي بقدر ما أروح عن نفسي التعبة قليلاً أو ربما أجد شيئاً من حريتي عندها!.