18 ديسمبر، 2024 7:18 م

طوفان وإعصار وأشعار !

طوفان وإعصار وأشعار !

أكتب هذه السطور المتشحة بالسواد وأنا أتابع عن كثب والحزن يعتصر قلبي ، ويجهد ذهني، ويخبث خاطري،آخر تفاصيل إعصار دانيال الساحق الماحق وفيضان ليبيا المأساوي وذلك بعد أيام قلائل على زلزال المغرب المدمر، حيث تشير الاحصاءات الى اختفاء ربع مدينة درنه الليبية من الخارطة بالكامل، وسقوط الاف القتلى ، بينما جرفت مياه السيول العاتية المئات من السكان مع المباني التي يقطنونها ،والسيارات التي يستقلونها وألقتهم جميعا في عرض البحر ولا تزال الحصيلة مرشحة للزيادة بعد الكشف عن وجود آلاف المفقودين ، بينهم عشرات المصريين العاملين في ليبيا ممن تتراوح اعمارهم بين 18 – 30 عاما بحسب سي ان ان ، ولا يسعني الا أن أستهل مقالي بالدعاء للغرقى بالرحمة،وللعالقين بالنجاة ،وللمصابين بالشفاء العاجل ، ولذوي الضحايا بالصبر والسلوان .
وأحمد الله تعالى أن تسمية الاعاصير قد – ذكِّرّت – بعدما كانت ومنذ منتصف القرن الماضي تكنى بأسماء الإناث في الأعم الأغلب ولكن ومع نهاية القرن العشرين بدأ خبراء الطقس بإطلاق أسماء الرجال عليها بالتناوب ومن أشهر الأعاصير -المؤنثة – إعصار (إيرما ) و( ماريا ) في الكاريبي ، كذلك (ساندي) و(كاترينا) و(هيلاري) في الولايات المتحدة ، و(فيونا ) الذي ضرب جمهورية الدومينيكان ،و(نانمادول) الذي ضرب اليابان، بعد أن كانت تسمى الاعاصير بأسماء القديسين نحو اعصار “سانت لويس” و”سانتا ماريا” واحيانا بأسماء المناطق كاعصار المسيسبي ، أو السنين التي تقع فيها ، أما حاليا فيتم تسميتها بالتناوب بأسماء تتراوح بين التذكير والتأنيث بحسب المنظمة العالمية للارصاد ، وآخرها وليس أخيرها اعصارا ” لي ” الذي ضرب الساحل الشرقي للولايات المتحدة ، واعصار دانيال الذي ضرب اليونان ومن ثم ليبيا ، وقد أثار الرئيس التونسي قيس سعيد، جدلا واسعا على مواقع التواصل حين ربط اسم “دانيال ” بالحركة الصهيونية مؤكدا خلال اجتماع مهم ضم رئيس الوزراء التونسي ، وعددا من وزراء حكومته بأن ” دانيال ” هو نبي عبري، وقد وقع عليه الاختيار لتسمية الإعصار، لأن الحركة الصهيونية قد تغلغلت في العقل والتفكير الجمعي ” على حد وصفه .
وأضيف “نعم” هي لم “تؤنث” القصيدة العربية على خطى ” خبراء الطقس ” مع الاعاصير المدمرة ، ولم تكبح جماح “فحولتها” كما يحلو لبعض “النسويين” ممن يناصبون الرجولة والفحولة ولا أقول الذكورة العداء تكرار العبارة واقتباسها واستنساخها من باب الاثارة ولفت الانتباه لتتصدر عناوين الاعمدة والمقالات الصحفية أو تتذيلها في عديد الصحف والمجلات الورقة والالكترونية جزافا، لأن من يطلق تلكم التوصيفات المجانبة للصواب مؤكد أنه لم يقرأ عن الخنساء أو بثينة بنت المعتمد أو حمدة بنت المؤدب أو علية بنت محمد المهدي أو عمرة بنت مرداس أو ولادة بنت المستكفي أو نضار بت ابي حيان النحوي أو عاتكة المخزومية فضلا على عشرات النساء الاخريات اللائي عرفنَّ بالبلاغة وأشتهرنَّ بالفصاحة وذاع صيتهنَّ بنظم الشعر والقائه وقرضه على مر التاريخ وبما تضج به كتب التراث العربي وتغص بطونها وصفحاتها بأسمائهنَّ وكناهنَّ وصفاتهنَّ وأشعارهنَّ ، الا أن شهرة نازك الملائكة ، ولاشك تكمن في ريادتها للشعر الموزون المتحرر من بعض التفعيلات وبما يعرف بـ” الشعر الحر” على خلاف بين النقاد وكما هو معروف في قائمة الريادة والاسبقية ولمن تنسب ، هل لبدر شاكر السياب ، أم لنازك الملائكة ورب سائل هاهنا يسأل وحق له ذلك “وما علاقة الفول المدمس ، بالدولمة العراقية ” ولا أريد أن أقول ” البامية بالجلاق ” كما يحلو لجاري السبعيني والذي ما زال يدمن لبس “البيجاما البازة المقلمة منذ أيام أورزدي باك ، وحسو اخوان ” تكرارها لأنها أصبحت ولكثرة استهلاكها ” أعتك من اليخني” وأقول بالفصحى “صبرا” وبالعامية “بس على كيفك أغاتي “، فنازك الملائكة التي نشرت عام 1947 قصيدتها الشهيرة “الكوليرا” بعد انتشار “وباء الهيضة” في مصر هي ذاتها التي نظمت قصيدتها “الفيضان “وبما أرخ ووثق للكارثتين أدبيا ولاسيما لفيضان نهر دجلة عام 1954م في بغداد ، والتي تقول في بعض أبياتها :
وتعالى الدويّ في النهر البا ..كي على مسمع القلوب الدّوامي
سر بنا لن نخاف من ضجّة المو …ج ولن نرهب العباب الطامي
ولم يختلف الحال مع بدر شاكر السياب ، في قصيدته ” غريب على الخليج ” واصفا البحر والريح والموج والبعد والغربة :
الريحُ تصرخ بي عراق
والموج يُعوِل بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!
كذلك الجواهري الذي وصف فيضان وسكون نهر الفرات ليختم قصيدته ( الفرات الطاغي ) مبينا تبعات ونتائج زيادة النهر أو نقصانه وكلاهما يعبثان بالزروع والعمران ،وما الرخاء المائي الا في التوسط والاعتدال بين زيادة أو نقصان ، وخير الامور أوسطها لأن الوسط وعلى الدوام هو فضيلة بين رذيلتين قائلا :
وهاهو الماءُ موتٌ في زيادته …وفي النقيصةِ مسروقٌ فمُحتَكَر
كذلك الحال مع احمد شوقي ، في قصيدته “النيل”وقد وصف هدوء النهر وثورته في آن واحد :
جارٍ ويُرى ليس بجارٍ ..لأناة فيه ووقارِ
يصبُّ كتل مُنهار ..ويضج فتحسبه يزْأر
ولاشك أن اعتدال فيضان النهر مطلوب جدا لخصوبة الارض وانتعاش الزراعة والصناعة والاقتصاد على النقيض من تراجع منسوبه أو تأخر موسم فيضانه أو طوفانه اكثر من الحد المعتاد ، وفي ذلك يقول عالم المصريات الفرنسي أوغوست مارييت ، الملقب بـ” مارييت باشا ” إن مصر وكما تهتز بالجزع إذا تأخر الفيضان، فكذلك يعمها الضرر إذا كان فيضانه زائدًا عن الحالة المألوفة” وما تزال أزمة سد النهضة عالقة بين كل من مصر والسودان واثيوبيا بانتظار حلها سلميا أو تفاقهما سياسيا ودبلوماسيا وربما عسكريا ايضا ، تماما كأزمة العراق مع سد اليسو التركي على نهر دجلة ، وسد اتاتورك على نهر الفرات، اضافة الى أزماته المائية المتتابعة مع ايران ولاسيما مع سدي داريان وكولسه وقد تسببا بخفض مناسيب المياه في نهري الزاب الصغير وسيروان ،زيادة على قطع ايران ما يقرب من (35) رافداً رئيساً لتغذية العراق بالمياه ما أسفر بمجمله عن تراجع حصص العراق المائية الى مستويات مقلقة للغاية !
ولعل من المفارقات المضحكة المبكية أننا لانفتأ نتحدث ونناقش ونتحاور ونكتب ونردد قصائد من سبقونا وهم يتحدثون عن طوفانات العراق وفيضاناته السالفة المتتالية ما قبل حقب السدود ، فيما يعاني العراق اليوم من اجهاد مائي غير مسبوق من جراء شح مياه دجلة والفرات وتراجع مناسيبهما بسبب قلة الامطار ، وتقادم المشاريع الاروائية أو توقفها أو تلاشيها ،وبسبب المشاكل العالقة مع الدول المتشاطئة وبما شطر الشارع العراقي الى شطرين، شطر يحمل تركيا المسؤولية كاملة في عطش العراقيين فيما يغض الطرف كليا عن ايران، يقابله شطر آخر يحمل ايران الكارثة كاملة ويذهل عن دور تركيا فيها ، ولن ولم أثق يوما بالخطاب الطائفي والمتحزب المتوكىء على الاجندات، والمتماهي مع البروباغندات ، دولية كانت أو اقليمية ، ولاسيما ما يتعلق منها بالقضايا الأمنية، والملفات السياسية ، والمصائب البيئية ، والآفات المجتمعية ، والكوارث الطبيعية، وبما يستدعي الى ذاكرتنا جميعا سيناريو “فيلم الظامئون” أحد أهم افلام السينما الواقعية العراقية الذي انتج عام 1972 م والذي تدور قصته حول جفاف النهر والصراع المتمخض عنه بين ابناء القرية الواحدة = أبناء البلد الواحد ، وأبناء الشعب الواحد ، فبينما يحرص فريق مناضل و مكافح ومواجه منهم على الصمود في الارض لتجاوز المعضلة والعمل على حلها بإعمال العقل ، وبذل الجهد ، وحفر الابار، يقابله فريق آخر متخاذل ، انهزامي ، انبطاحي ، مستأنس يروم النزوح من الارض في أول مواجهة له والهروب وهجر الديار،وبينهما يقف كالمعتاد فريق التل “الحائر ، المذبذب لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ليمارس دوره التقليدي وبما حوله بالتدريج وبمرور الوقت الى فريق اذا حضر لايعد ، واذا غاب لايفتقد تماما كلقلق الكنيسة أيام زمان الذي تغنت بعدم وضوح قناعاته ولا رؤيته ولا رسالته الامثال الشعبية حتى بات الكل يسأل فريق المذبذبين والواقفين على التلال “لك بس كلي ..دينك شنو ؟! “.
ولن تجد أمة على سطح الكوكب وعلى مر التاريخ لم توثق أو تؤرخ للعواصف العاتية والرياح القاصفة كذلك الجفاف والفيضان في جملة كوارث لطالما شغلت بالها ، ونغصت عيشها، وألهبت حماسها ، لأن شح المياه والجفاف المفضي الى التصحر كارثة بحق ، كذلك الفيضانات الناجمة عن الاعاصير والأمطار الغزيرة والعواصف المدارية والعواصف الثلجية وذوبان الجليد وموجات التسونامي كارثة أخرى لا تقل سوءا وفداحة عن سابقتها ، وبحسب الأمم المتحدة فإن الفيضان يعد واحدا من أسوأ الكوارث البيئية وأكثرها شيوعا، لأن مخاطر الفيضانات لا تنحصر بأعداد الغرقى والمشردين والمفقودين والنازحين فحسب ، بل تتعداها الى تفشي الاوبئة الفتاكة والأمراض الانتقالية كحمى الضنك والملاريا والكوليرا والكبد الفيروسي والحصبة والتهاب السحايا وفقا للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، كذلك انتشار القوارض والحشرات بأنواعها، زيادة على تلوث مياه الشرب واختلاطها بمياه الصرف الصحي ، وقطع الطرق وشبكة المواصلات والاتصالات وشبكات الطاقة وتدمير البنى التحتية بالكامل وطمر الأراضي وتلف المحاصيل الزراعية والمخزونات الغذائية ، وانهيار المنازل والجسور والسدود ، وبما أثر على أكثر من ملياري شخص حول العالم بين 1998 – 2017 بحسب منظمة الصحة العالمية .
لتأتي الطامة متملثلة بدراسة بحثية لفريق من علماء جامعة اريزونا كشف عن أنه “وبحلول عام 2030، ستشهد 25 دولة أخرى زيادة في الفيضانات إضافة إلى( 32 ) دولة متأثرة بها في الوقت الحالي وبما يهدد ما يقرب من 230 مليون شخص بسبب التغيرات المناخية والديمغرافية والتي تجعل من الناس يسكنون في أماكن مهددة بالفيضانات لرخص ثمنها بدلا من الهروب منها أو الابتعاد عنها وعلى قول المثل الشعبي المصري ” ايه اللي رماك على المر ..قال غير الأمر منه !”.
علما بأن الإعصار غالبا ما يبدأ على هيئة عاصفة إذا زادت سرعة رياحها عن 119 كيلومترًا في الساعة ، لتتخذ شكلا حلزونيا يدور عكس اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي ، وباتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الجنوبي فيما تتباين أحجام الأعاصير التي تتشكل فوق المحيطات بين الكبيرة والصغيرة كما تختلف ألوانها، وأخطر الأعاصير هي “الهاريكين” و”التايفون” و”السيكلون” ، وليس هناك من بمقدوره وقف الأعاصير إلا أن هناك طرقا للتخفيف من وقعها وفقا لإدارة مخاطر الكوارث ، وتعد الأعاصير المدارية من أكبر الأخطارالتي تواجه البشرية وقد تسببت خلال العقود الخمسة الماضية بـ 1942 كارثة اسفرت عن مصرع 779 الف شخص وخسائر مادية تقدر بأكثر من تريليون ونصف تريليون دولار .
اما ما يتعلق بالفيضانات الناجمة عن الاعاصير والعواصف والسيول فهناك طرق عديدة لدرء اخطارها اضافة الى السدود وحواجز العواصف والقنوات المائية حيث ابتكرت الصين ما يسمى بـ “المدن الإسفنجية” لامتصاص الماء ، فضلا على تقنية تحويل المنازل إلى قوارب في هولندا ،وتقنية (الوحدات العائمة) في جزر المالديف .
ولعل من أشهر الفيضانات المسجلة فيضان النهر الأصفر في عامي 1887 و 1938 وفيضانا نهر يانغتسي في الصين عام 1931 و1935 وبما سيضاف لها فيضان درنة 2023 الناجم عن اعصار دانيال وانهيار سدي درنة الكبير والصغير لأسباب عديدة أبرزها توقف اعمال الصيانة في السدين منذ عام 2011 اضافة الى حجم السيول الجارفة وقوة الرياح العاتية وغزارة الأمطار التي جاء بها الاعصار …ويبدو أن عدوى الوسواس القهري وجنون الارتياب من خطر انهيار السدود قد انتقلت الى العراق سريعا بعيد انهيار السدين في ليبيا ، لتعاود صفحات التواصل العراقية – ونصفها إن لم يكن أكثر عبارة عن قراد وذباب الكتروني – الحديث مجددا عن انهيار سد الموصل والذي اعتدنا سماع اخبار انهياره – المزعومة – ولاسيما قبيل الانتخابات ، أو عند تفاقم الخلافات بين بغداد وكردستان ، أو عند تصعيد لغة الخطاب بين بغداد وواشنطن !!