حدث في رابع أيام عيد الأضحى وتحديدا بين صلاتي المغرب والعشاء أن لُقِنتُ درساََ ميدانيا لن أنساه ما حييت في الرأسمالية البشعة وذلك بعد مسيرة – سايكو بيولوجية -طويلة لأن المشي مفيد ويعمل على خفض الضغط والسكري وحرق الدهون الضارة ، اضافة الى،أن ((المشي السريع يقلل من العمر البيولوجي للشخص،حيث يجعله يشعر بأنه أصغر سناً بـ16 عاماً)) والنص بين قوسين ملخص دراسة علمية بجامعة ليستر البريطانية صدرت في أيار من عام 2022 ، كما أن المشي نافع سايكولوجيا لأنه يزيل التوتر، ويبدد القلق،ويزيح الاكتئاب ، ويريح الأعصاب، ولاسيما إذا ما ترافق مع “ذكر الله تعالى” وغض البصر، والسلام على من عرفت ومن لم تعرف،وإماطة الاذى عن الطريق،وتفقد أحوال الفقراء والعاطلين والكادحين ،ومساعدتهم ما أمكن لك ذلك ماديا أو معنويا .
بعد هذه المسيرة لم أجد بدا من الاستراحة في واحدة من المقاهي الشعبية -التعيسة – ولعل واحدا من أسباب جلوسي في هكذا مقاهي – طايح حظها – إنما يكمن في حجم الاستفزاز العاطفي، والعصف الذهني، والإعصار الوجداني ،الذي يجتاحني داخلها حيث الزبائن ومعظمهم من أبناء المحلات والأزقة المحيطة والأحياء القريبة يبثون همومهم بصوت مسموع، و يتناقلون أخبارهم جهارا ، وينفثون أحزانهم وزفراتهم ليلا ونهارا ليتجاذبوا أطراف الحديث فيما بينهم ،مهنئين بأفراح أحيانا، ومعزين بأتراح أحايين وبما يلهمني مضامين وعناوين المقالات والتحقيقات والأعمدة الصحفية التي أنا بصدد كتابتها لاحقا، كل ذلك أخويا وعفويا وتلقائيا وبلا أدنى تحفظ بعيدا عن التكلف والتصنع والدبلوماسية الزائدة والسائدة في الكافيهات النقيضة المترفة حيث الأقنعة البراقة، مشفوعة بعبارات تقال بطريقة متكلفة نحو ” شكرا ..العفو..آسف..هلو ..جاو ..واااو ..اوكي !” قبل تلقي الصدمة الختامية والضربة القاضية المتمثلة بأسعار الفاتورة الباهظة لقاء قطعة كيك صغيرة ، وكأس من العصير الصناعي بنسبة 80 % والمقدم على أنه طبيعي 100 %، هنا ” سيظهر الزبون الذي تصنع الرومانسية”موزعا الابتسامات والتحيات والاتيكيتات طيلة الجلسة”على حقيقته ليتحول الى” ابو جاسم لر” ولاداعي لذكر مزيد من التفاصيل عن المفردات والمصطلحات التي ينتقيها بعناية فائقة من قاموس – الفشار البغدادي- للتعبير عن حدة غضبه،وعظيم انزعاجه،ليتفوه بها ضد صاحب الكافيه وجارسوناته !
وأنا جالس أشرب الشاي لمحت طفلا -يستجدي – بقطعة واحدة فقط من “علكة ابو السهم” كان يمسكها بيده اليسرى عارضا اياها على زبائن المقهى واحدا تلو الآخر لعل أحدهم يعطيه مبلغا من المال نظيرها، وعبثا حاول الحصول على ما يطمح إليه ويطمع به ولفترة طويلة قبل أن يدس أحدهم – 1000 – دينار في يده من دون أن ينظر اليه حتى حيث كان الرجل مشغولا بلعب الدومينو مصحوبة بالعبارات المعهودة “يمعود العب على ايدي .. المن ضام الدوشيش …ليش ما ذبيت البنج جهار؟!) .
غادر الطفل المقهى مسرعا وهو في غاية الغبطة والسرور- حقيقة – وكل ظني بأنه ذاهب الى أقرب”دكان” ليشتري منه علبة عصير صغيرة ، مع بعض الحلويات الرخيصة ، الا أنه عاد بعد هنيهة وبيده مفرقعات نارية فقط لاغير ، سرعان ما أشعلها واحدة تلو الأخرى يسار المقهى ليحرق الـ 1000 دينار التي حصل عليها مقابل التضحية بآدميته وعزته وكرامته وسمعة أهله بظرف ثوان معدودة ..!!
هكذا هي سعادة شعوب -العالم اللاهث- الاستهلاكية الدائمية ، مقابل فقدانهم وتضحيتهم بعوائلهم وأسرهم وفضائلهم وانسانيتهم ، بالمقابل هذا هو حال شعوب – العالم الثالث – حيث السعادة الخيالية والوقتية مقابل فقدان الإحساس شبه التام بالمستقبل والزمان والمكان ومعظمهم ولا أبالغ في ذلك شعاره هو “شبعني اليوم ..وجوعني غدا !!” .
ما صنعه الطفل المسكين ولا أظنه فقيرا بالمعنى الحرفي والشرعي والقانوني للفقر،لأن حذاءه وملابسه كانت نظيفة وأنيقة وجديدة كذلك تسريحة شعره كانت على الموضة، هو عين ما تصنعه الرأسمالية البشعة بشعوب العالم الثالث حين تدفع حكوماتهم دفعا للزحف والاستكانة والخضوع والاستجداء والاستدانة بفوائد عالية من البنك الدولي ، وشقيقه التوأم صندوق – الحقد – الدولي لا ليبنوا بها مساكن واطئة الكلفة لذوي الدخل المحدود ، ولا ليحلوا أزمة السكن المتفاقمة ،ولا لبناء المستشفيات والمستوصفات والمدارس والمعاهد والجامعات،ولا لفتح الطرق وبناء الجسور والمصانع والسدود،ولا لتحسين واقع الإنتاج ، ولا لاستصلاح الأراضي الزراعية،وإنما لحرق معظم تلك الأموال المستدانة بفوائد عالية بعد جهد جهيد،وبذل ذليل، في إطلاق الألعاب النارية وتنظيم الاحتفالات الكبرى واقامة المهرجانات والكرنفالات والمناسبات والبطولات والأعياد الوطنية والدينية اضافة الى بناء المزيد من السجون والحواجز والأسوار والخنادق والمنتجعات والقصور ، وفي كلا الحالتين فإن الرابح الأوحد و الوحيد من ذلك كله هي الرأسمالية البشعة ذاتها ، فمنها يتم الاقتراض الربوي ، واليها تسدد الفوائد أضعافا مضاعفة،والى شركاتها حصرا توكل أعمال اقامة المهرجانات وتنظيمها والإشراف عليها فيما يتم الدفع لها من الأموال التي تم اقتراضها منها !
لقد استجدى الطفل( = شعوبا وحكومات) ومرغ كرامته وسمعته وعزة نفسه وألف ديناره في التراب( = قرض البنك الدولي الربوي ) لم يكن بحاجة اليه واقعا ، ليشتري به – مفرقعات- لاتسمن ولا تغني من جوع ( = مهرجانات وكرنفالات ومناسبات وبطولات أغلبها إن لم تكن كلها كيوم زينة الفرعون للضحك على الذقون ) بالمناسبة إن عيد يوم الزينة أيام الفراعنة = عيد شم النسيم اليوم ، ليحرق كرامته وسمعته وألفه كلها مجتمعة خلال خمس دقائق لا أكثر،والمستفيد الوحيد بعد الشركة المصنعة للمفرقعات والألعاب النارية، هو التاجر الذي استوردها بملايين الدولارات برغم كم التحذيرات والاعتراضات، لتحرقها الشعوب والحكومات فيما بعد بالكرنفالات والأعياد والمناسبات والدوريات والبطولات والمهرجانات، فهل يعقل شراء – رونالدو – على سبيل المثال وليس الحصر-حتى لايزعل علينا عشاقه ممن يطلقون عليه لقب “الدون”على غرار ألقاب الزعيم والقيصر والهضبة في زمن غابت فيه البطولات والهضبات وتلاشى فيه الدونات والزعماء والقياصرة ، بـ 207 ملايين دولار نظير اللعب لموسمين ونصف فحسب لصالح نادي النصر ، مقابل تبرع “قمة القدس” العربية لعام 2018 بـ “200” مليون دولار فقط لا غير للقضية الفلسطينية المركزية الأم ، ولـ “أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ” ؟!
وشتان ما بين مفرقعات وألعاب نارية تطلق في فلسطين الحبيبة بوجه المستوطنين وقوات الاحتلال الصهيوني المسخ لمقاومتهم وإرباكهم وإزعاجهم وتشتيتهم ، كذلك المفرقعات التي تطلق بوجه الشرطة الفرنسية لمناهضة الاستعلاء والاستكبار والتمييز والعنصرية المقيتة من جهة، ولتحقيق العدالة الاجتماعية لسكان الضواحي واللاجئين والمهاجرين من جهة أخرى، وبين مفرقعات وألعاب نارية تحرق في مهرجانات فنية وسوقية وسياسية وانتخابية لإضفاء بهجة وسعادة وقتية – غير موجودة – على أرض الواقع ، وتحت شعار” أسعد الفقير يوما ، واسرق طعامه وقوته وبلده ومستقبله كل يوم ” امتثالا لوصية ” ميكافيلي ” في كتابه ذائع الصيت ” الامير ” بضرورة الاكثار من الاحتفالات الابتهاجية التي تسعى جاهدة الى استعلاء وتقوية وتمكين الراعي – الحاكم – مقابل – قشمرة – وخداع والهاء وسحب مدخرات واستنزاف أموال الرعية – الشعب – وبما وصفها كتاب ” فخ العولمة ” باستراتيجية ” تسلية الثدي ” التي يمارسها 1% من سكان العالم من الساسة وفاحشي الثراء لنهب ثروات ، وسرقة خيرات ، ومصادرة مدخرات 99% من البشرية اللاهثين كالمجانين خلف الترفيه المؤقت ، والمتع الحسية الزائلة ، مقابل اسراف وتبذير كل ما حصلوا عليه بعد كد مضن ، وعمل مجهد نفسيا وجسديا ، وبشق الانفس، على حساب الصحة والعائلة والوقت والعمر والعبادات والطاعات، أو من خلال السلف والقروض الربوية فاحشة الفوائد ، ليحرقونها ويبددونها في غضون يوم أو اسبوع أو شهر أو عام ..وأي هراء هذا ، وأي حمق ،وغباء ذاك ..يا بشر ؟!
والادهى أنهم سيحاسبون على مصادر أموالهم، وعلى طرق حصولهم عليها ، اضافة الى محاسبتهم على الأوجه التي أنفقت فيها ، وياويل وسواد ليل من اكتسب أمواله من حرام لينفقها في الحرام ! أودعناكم اغاتي.