بعد فراره من العراق عام 1978 ،برفقة الشاعر عبد الكريم كاصد عبر صحراء البادية الجنوبية العراقية، بقي الشاعر( مهدي محمد علي) طوال سنوات المنافي، يعيش حياته في البصرة، التي سكنته عبر الذاكرة ، وكأنه لم يغادرها طوال تلك السنوات، وذهب إلى وضع البصرة في نهاية جميع ما كتبه ،مثلاً:” البصرة- الكويت، البصرة – عدن،البصرة – موسكو، البصرة – حلب، الخ”، وكانت البصرة هي المكان الذي يلوذ به في حياته خارجها، وقرر أن يحملها معه مهما تتبدل المنافي والبلدان، بكل أحوالها وتحولاتها ، و ذلك يستلزم حفظها في كتاب ، و باشر برسمه بالكلمات،فرسمها كما رآها وعايش ناسها وأماكنها من عمر الخامسة حتى الخامسة عشرة. وكتب عنها كتابه (البصرة..جنة البستان).وهو كتاب استذكاري.. ورؤى وأخيلة طفل، لواقع مدينته في بداية خمسينيات القرن العشرين. وقد استغرق منه ثلاث سنوات ، بدأ فيها من عام 1982 بعد أن تأكدت حالة النفي وحين استشرف المستقبل، ورأى انه لن يعود إلى مدينته إلا بعد سنين طويلة ، وربما لن يعود أبداً، و حتى وإن عاد، فهو لن يعود مطلقاً، إلى بصرة الطفولة والصِبا ، لأنها بدأت تتثلم منذ إزالة (الطاق) في (العشار) ومبنى (البنك العربي) وساعة (سورين) ، وتغير ملامح ساحة (أم البروم) و ( كورنيش) شط العرب، وكذلك مقهى بعض مثقفي المدينة ، و يطلق عليه شعبياً بـ(الدكة)، فبدأ بتأكيد بعض الصور من أخيلته عن (بصرته) الغائبة عنه واقعاً والكامنة في ذاكرته الحية المتوقدة. يذكر الشاعر عبد الكريم كاصد :” حين كنا في سوريا،هاربين من النظام،نعيش متجاورين،مهدي وأنا، كان هو مشغولاً بمشروعه ، وهذا الكتاب من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى. قرأه الكثيرون: مهندسون، أطباء، عمال، طلاب، وتم تهريبه إلى العراق آنذاك، ولكنه للأسف لم يجد أي صدىً، في الجو الثقافي العراقي – العربي الصدئ”. حاول بعض الباحثين بعد سنوات على صدور كتاب (مهدي) إيجاد (تناص أو تواصل) ما بين” بصريثا..صورة مدينة” للقاص ” محمد خضير”الصادر عام 1993/
منشورات الامد”،واغلبها مقالات نشرها الأستاذ “محمد خضير” بين الأعوام 1987- 1990، في صحف ومجلات عراقية، و ” البصرة ..جنة البستان” الذي صدر زمنياً قبل كتاب الأستاذ محمد خضير. إلا أن ذلك لم يكن دقيقاً وصائباً ، إذ أن كتاب “بصرياثا” قد عمل فيه القاص”محمد خضير”على طبقات عدة من أنواع السرد والرؤى متعددة الأشكال والمضامين ،موظفاً قدراته السردية – الفنية للحفر في تاريخ المدينة ، ومتابعة اندثارها ، وتجددها المتواصل،والميثلوجيا التي اتسمت بها،وسطوة سنوات حرب العقد الثمانيني عليها ، والذي تحولت فيه إلى مسرحٍ قاسٍ وضارٍ للحرب. إضافة إلى أن:”بصرياثا.. كتاب محير في طبيعة تصنيفه ،فهو ليس من جنس القص، أو السرد المحض، ولا هو بكتاب مذكرات ،أو سيرة..انه صورة مدينة،فيها مما ورد، ومما لم يرد في التوصيفات السابقة شيء كثير..وتمنح الاستعارة، بما تملك من قوة المجاز لغة الأستاذ (خضير)شعرية لا يمكن تجاهلها ،وهي تجسم النثر، وتجسده، ومن الجماليات المؤثرة في (بصرياثا)، التضاد الذي يأخذ بعداً دلالياً يمنح التشكيل النثري متسعاً من المطابقة التي تبرز الشيء ونقيضه،مما يجعله يؤشر على: خرائط مواقع ،آبار،وغدران وبرك ووديان واكمات وجبال،ومراع، ومواطن قبائل تعوزها قدرة تخيل البرق عند بدوي يفرز السحابة الممطرة(المزنة) عن شبيهتها الكاذبة” ( د. فاضل عبود التميمي). كما عد بعض الكتاب (البصرة جنة البستان) من أدب السيرة التي تغدو مدينة الكاتب جزءاً من حياة كاتبها، وفي حالات كثيرة تصير المدينة هي الهدف من كتابة السيرة، وتجيء من خلالها سيرة الكاتب كفرد من الأفراد الذين عاشوا في تلك المدينة، ذلك ما عرفناه في سيرة الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في كتابه” داغستان بلدي” و” الطريق إلى غريكو” لنيكوس كازنتزاكي”. ” البصرة.. جنة البستان- سيرة نثرية” رؤيا وأخيلة طفل، لواقع مدينته في بداية العقد الخمسيني، خاصة بالنسبة للمنفي، إذ يتأكد جوهر الحنين للوطن عبر الحنين للطفولة والصبا وما تأسس عليهما ، والوطن هو الأشياء والأحياء وما اكتنفهما من حوادث ومسارات ، الوطن هو البيوت ، والدروب، وما فيها ، هو الإنسان والحيوان والماء والشجر ، ولكن الإنسان هو العنصر الفعال في كل ذلك ، وهو في الوقت
ذاته العنصر المنفعل بكل ذلك ، أن ثمّة فرقاً بين مكان الوطن وزمانه من جهة ، ومكان المنفى وزمانه من جهة ثانية ، فالأول منجز قد توقف ظاهرياً ، والثاني مفتوح يأتي بالمتوقع وغير المتوقع ، ويظل الوطن يتناسل في الروح ، ويستعاد مرات ومرات ، بسبب انفتاح المنفى ، وربما – أحياناً – بسبب انغلاقه وغموضه ، وفي كلا الحالين يظل الوطن يمور ويتناسل ، ولكن الأمر يختلف من مبدع إلى آخر ،فمدينة البصرة ..جنة البستان بالنسبة لـ (مهدي) بضوئها وعتمتها كائنة في النصّ حتى وان لم يتضمن ذلك النص النخلة والبلم ، أو شط العرب وجداول البساتين ، و لقلق المئذنة أو الغراب الذي يسرق (الصابونة) من أرض (الحوش) ويمضي بها إلى السماء. ثمة في المنفى ما يرسخ الوطن – البصرة – البيت – الجدار – الغرفة – المنضدة – نافذة الشناشيل ، فكلما أوغل المنفي في الغربة أوغل في الوطن. و”البصرة.. جنة البستان” هوالمزج بين الاستذكارات النثرية المطعمة بشيء من الشعر للكشف عن تصورات وأخيلة ذلك الطفل الذي يجلس في أعلى شجرة (التكي) ليتذوقها ويمسك بيديه صغار( البلابل) ولحمها الطري، ليستحوذ عليها، ثم وفي حالة من تجلي الطفولة الرقيقة ، يرق لصراخ أمها، التي تحوم حوله، فيتركها دون أذى، كما انه وعي الطفل وذاكرته الحادة جداً والتي تحتفظ بسمات مدينته.. ومع انه في المنفى لأكثر من أربعة عقود إلا انه يتفحص قصص مَن عايشهم فيها ومنهم أمه و إخوته وأخواته وجيرانه وأصحاب طفولته ، من الذكور والإناث ، وحتى أصوات بائعي الصمون الحار والقيمر صباحاً، وكذلك يؤرخ لصوت (البلبل) الذي كانت تبدأ (دار الإذاعة العراقية الملكية) بثها الصباحي بإشارته، والذي يختفي فجر 14 تموز 1958 ، الذي فتح أشياء كثيرة و متعددة من السعادات، والهناءات ، ومختلف أنواع التحولات والحراكات الاجتماعية ، و التي لا عهد أو تراث للعراقيين بها .
*لمناسبة مهرجان المربد الشعري الثالث عشر البصرة 1 – 4 – شباط -2017 – دورة الشاعر مهدي محمد علي – المحتفى به الأستاذ الدكتور الناقد شجاع العاني وإسهاماته في النقد العراقي.